مساحة حرة

في العودة إلى دمشق

ومنذ القديم قيل: عُدتَ والعَودُ أحمدُ. وتكرّر القول، وتنوّعت وتعدّدت استلهاماته. واليوم تُطرح مسألة العودة إلى دمشق بقوّة، وباختلاف في الرأي.

فمن هم الراغبون في العودة؟: عرب، عروبيون، أعراب، معارضة بأطيافها التي باتت عصيّة على التصنيف مضطربة حيرى، وطنيون مغرّر بهم أم نزحوا تحت وطأة الإرهابي ووحشيّته، دول وحكومات وأمنيّون.. إلخ. وما أسباب الرغبة في هذه العودة، وتسارع الخُطى، والسباق إلى حجز المقاعد، خفيةً أو خلسةً أو علناً؟:

هل الأسباب تتصل بالتاريخ الوطني والعروبي والإنساني لدمشق الذي جعلها تفتح ذراعيها عبر صفحاته الطوال حبّاً وتسامحاً وترفّعاً وتسامياً على الجراح؟.

أم بمشروعيّة وشرعيّة نظامها السياسي ذي المبادئ والثوابت الوطنيّة والقوميّة عبر تضحياتها ومواقفها التاريخيّة في دعم الحق العربي والقضيّة المركزيّة استكمالاً لدعمها حركة التحرر الوطني والاستقلال العربي في مشرق الوطن ومغربه، إضافة إلى تمكّنها من بناء دولة وطنية كانت تسمّى حتى قبل الحرب عليها والمؤامرة بـ«سويسرا الشرق»؟

أم بصمود شعبها وجيشها وقيادتها؟.

أم بوجود معطيات جديدة محليّة «انتصار سياسي وعسكري ومجتمعي»، وإقليمية «الحضور الوازن والمتقدّم لمحور المقاومة.. ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات – السيد حسن نصر الله»، ودوليّة تتمثّل في تعثّر السيد الأمريكي وعملائه في كل شيء، فالشعب الأمريكي اليوم يطالب الإدارة بالتوقّف عن تهديد الدول الأخرى القادرة على الصمود والرد سواء في كوريا الديمقراطية، أو إيران، أو فنزويلا، أو سورية، أو كوبا… إلخ

إضافة إلى وجود طموح أورو- آسيوي جامح وفاعل يطالب ببناء نظام عالمي جديد قابل للتحقّق دون العودة إلى الولايات المتحدة. فكيسنجر كتب بالأمس والقلق يساوره تحت عنوان «فوضى ونظام في عالم متغير»: النظام العالمي مهدّد بانفراط عِقده والانحلال على أطراف الشرق الأوسط.. حيث خصمُ العدو ليس صديقاً، بل هو عدو.

هذا جميعه أفشل الحرب في سورية وعليها، وجعل الشارع العربي يرى في انتصارها مقدّمة لزمن عربي جديد وواعد.

لا شكّ هناك اليوم في سورية تباين في الرأي بين الوطنيين الذين دفعوا ضريبة البقاء في الوطن والدفاع عنه والذود عن حِماه وثوابته وكرامته بالتضحيات الجِسام، فكانت العزيمة.. والهزيمة.

لذلك نسمع الآن خلافاً في رأي الوطنيين السوريين، وهذا أمر طبيعي وليس في المسألة توزيع أدوار أبداً.

وإنَّها لمسألة تستحقّ النقاش والخلاف بعد الدمار في البنى الفوقيّة والتحتيّة.

هناك من يقول: إن الصبر والنجاح اللذين تحقّقا بفعل الصمود الأسطوري التاريخي يجب أن يتوّجا بالقضاء النهائي على الإرهاب والتطرّف والتكفير والرجعية والتخلّف، وعلى الأدوات والمشغّلين أفراداً ومؤسساتٍ وحكوماتٍ متورطةً، وعلى الذيل والرأس. إذ لا ضمانة من يقظة الخلايا النائمة في مستقبل الأيام، فالعائدون مهزومون مسبقاً، وليسوا تائبين، وللتاريخ تجربته وحكمته التي تنفع الواقع والمستقبل، وصدق من قال وأصاب: لا تقطعنّ ذنبَ الأفعى وترسلها / إن كنت شهماً فأتبعْ رأسَها الذنبا.. وهناك حقوق شخصية لاتسقط بالتقادم ولا بالعفو.

وهناك من يقول أيضاً: هؤلاء مَضَوا في مشروع خيانة وغدر ونذالة، وتربّصوا بالوطن وبالشعب كل شر وأذيّة، وحين فشل مشروعهم لاذوا بالعودة، وبطرح «لا حل في سورية إلا أن يسامح الجميع الجميع».

لكن مَنْ الجميع ؟!، هل هم الذين بقَوا في الداخل، أم يضاف إليهم من ارتزق واستُؤجر وخان وقَتَل؟ وكيف تكون المسامحة على حساب الدم والجرح والبتر والتخريب؟

وهل استسلام الخاسر لخسارته يتعارض مع تدمير المشروع المضاد وسائلَ وأدواتٍ وأهدافاً استئصالاً لنواجذ الشر التي قد تنبت مجدّداً شرّاً وشرراً مستطيراً مرة أخرى؟.

نحن كأحزاب وتيارات وقوى وطنية سنبقى نستلهم قول القائد الأسد خلال لقائه في 26/7/2015 مع كوادر المنظمات والنقابات وغرف الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة، في معرض حديث سيادته عن الغشاوة التي زالت عن الكثير من العقول، وعن الأقنعة التي سقطت عن كثير من الوجوه، وهوَت بحكم الواقع..

«أيها السادة: الوطن ليس لمن يسكن فيه، وليس لمن يحمل جواز سفره أو جنسيته، الوطن هو لمن يدافع عنه ويحميه. الشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا وطن له، ولا يستحق أن يكون له وطن».

ونحن أيضاً، وكما يبدو، لدينا استراتيجية متكاملة وليست كاملة ناجزة تجاه مسألة العودة بعيدة عن المتاجرة بتناقضات العائدين وبخلافاتهم أفراداً أم مجموعاتٍ أم حكوماتٍ، وإذا كانت السياسة مصالحَ قبل أن تكون أحقاداً، فمصالحنا في بناء سورية الوطنية والعروبية الموحّدة أرضاً وشعباً وسيادة، فلا تقاسم ولا تقسيم، سورية القادرة على الإسهام الكبير في دحر مخلّفات الإرهاب والتطرّف والتكفير، وفي بناء مجتمع وطني وعروبي جديد مستنير يحقق الأمن الوطني والقومي، ويدعم المشروع العروبي في صراعه الأساسي مع المشروع الصهيوني وعملائه.

«هنا دمشق» وهكذا العودة إليها.

د. عبد اللطيف عمران