ثقافة وفن

الحداثة والحداثية وما بعدهما عندنا

يصعب بحث قضايا الحداثة* والحداثِية** وما بعدهما*** في معزل عن جواراتهما ونظائرهما كالصناعة والمجتمع (والعصر) الصناعي وما بعدها، والتقدم العلمي والتقني والثورة التالية لهما، والعولمة والعولميات وما تلى ذلك، أيْ أن خارطة التلازم والمقارنة هي كما يلي:

1 – الصناعة وعصرها: المجتمع الصناعي فالصناعي الجديد والناضج فما بعد الصناعي، وارتبط بهذا مذهبا الصناعة وما بَعدها أي الصناعوية وبَعد الصناعوية.

2 – التقدم في مجال العلم والتقنية والتقانة مَرَّ بطفْرات معْلمية ثلاث أساسة حتى الآن هي تبسيطاً: الثورة الصناعية الأولى منتصفَ القرن الثامن عشر/ 1750، ثم الثورة الصناعية الثانية منتصف القرن العشرين والمسمَّاة الثورة العلْمية – التقنية، وبَعد ذلك الثورة الصناعية الثالثة منتصف ثمانينيّات القرن العشرين والموصوفة بطفْرةٍ تِقانية/ تكنولوجية وليست تقنية/ تكنيكية فقط، لذا وُسِمتْ بأنها ثورة تِقانية/ تكنولوجية أو ثورة علْمية – تكنولوجية.

3 – الحداثة وعصرها: المجتمع الحديث فالحديث الجديد الناضج (نْيوْمودرْن)، الحداثة التقليدية والجديدة، ومعهما الحداثِية فالحداثِية الجديدة (نيْوموديرنيزْم) والحداثِية المضادَّة (كونْترموديرنيزم) وصولاً إلى ما بعد الحداثة ومعها ما بَعد الحداثِية (بوسْتْ موديرنيزْم).

4 – الدولية فالعالمية فالكوكبية/ العولمية بمثابة الدولية/ العالمية وما بَعدَهما: نشأتْ مفاهيم ومصطلحات العولمة/ الكوكبة عالمياً منتصفَ الثمانينيات وبدأت الظاهرة بالانتشار سريعاً خلال التسعينيات واقِعاً وفكْراً، ومع العولمة/ الكوكبة تلازم فكْر الظاهرة أو مذهبها أعني العولمية/ الكوكبية (غلوباليزم Globalism) وفي الجوار ومن الردائف حصل تماماً ما حصل مع الحداثة ومذهبها تناظراً وتلازماً: أعني العولمية الجديدة newglobalism والعولمة المضادة أو البديلة….إلخ.

بعد هذا التمهيد أو المدخل أستطيع الآن الانتقال إلى ما يُشبه التوثيق البِيبْليوغرافي الخاص مِن تجربتِنا:

بدايةً يلزم أن أشير إلى استخدامي وزْنَيّ حداثِية وحداثويَّة ذاتَيهما منذ عقْدين ويزيد، وكذلك الوزنيَن المتقايِسَين معهما مِن مفردات أُخرى منشورة أمثال: العروبيّة والإسلامويّة على التوالي: ونجد هذا في عنوان دراستنا الدورية، نَشْراً، بعنوان: المصطلحات المعبِرة عن تراثِنا بين العروبية والإسلاموية (مجلة «المعلومات»، ع54، آذار 1997، دمشق، ص48-49). [1]

مصطلحات العولمة ومفاهيمها بدأت الظهور فالانتشار عربياً بعَد عام 1996 وقد وثَّقنا ذلك جيداً، وأثبتْنا بالتوثيق أيضاً أن البدايةَ عندنا التي دشَّنت انطلاقَ هذا الحدثِ هي ما نشرناه عام 1995 حين لا مصطلحات عولمية/ كوكبية عربية بَعْد، وذلك في مقال بعنوان «العالم النامي والنظام الدولي الجديد» (مجلة الشهر، باريس – دمشق، ع29، ت1/أكتوبر 1995، ص24-26).[2] وهنا توثيق هذا التدشين وهذا الابتكار عربياً منذ مطلع المقال:

«تشمل عمليّات العولمة (أي إكْساب الظواهر طابعاً عالمياً) أو الكوكبة (إكسابها طابعاً كوكبياً يشمل كوكب الأرض ككل) مجالات كثيرة ومتنوعة كالاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية…إلخ» وتالياً تفصيلات كثيرة لميادين ومجالات هذه العولمة/ الكوكبة…

كان هذا على المستوى العربي، أما على المستوى الدولي العالمي فكان تفرُّغُنا كلياً للبحث بين أعوام 1981 – 1985 بهدف دراسة أهم مشكلات العصر الكبرى وأكثرِها إلحاحاً وراهنيةً ككتلة واحدة ومنظومةٍ كبرى (ماكْروْمنظومة) وفي ظل التقدم العلمي – التقني المعاصر، بمعنى آخر فإن رسالتَنا الأكاديمية الفريدة والوحيدة عالمياً في هذه الحقول حينها، وعلى مدى سنواتٍ على أقلّ تقدير، كانت الأولى التي ترصد أكاديمياً بحْثياً في مؤسسات جامعية (جامعة موسكو الحكومية m.g.u) ما عُرِف على أنهُ المشكلات الغْلوبالية global p. ما ابتكرْنا تسميته ومصطلحَه عربياً مذْ ذاك (عام 1982 فما بَعد) على أنه المشكلات الكوكبية وما تلى ذلك من تفاصيل، كما كانت الرسالة الأولى أو الأكثر تَبْكيراً في رصد الركن الهام والخطير الآخر الذي هو التقدم العلْمي – التقني ولكن في أخطر منعطفاتِه وتحوّلاته التاريخية من التقنية/ التكنيك إلى التقانة/ التكنولوجيا، أي مِن ثورة علمية – تقنية إلى ثورة علمية – تِقانية مما بزغ وبدأ ينضج ويتبلور تحديداً في ذلك الزمن بدايات فأواسط الثمانينيّات، وهذان الركنان الحاسمان مذْ ذاك وحتى اللحظة تَواجدا وتلازما في عنوان الرسالة ذاتِها: «المشكلات الغلوبالية/ الكوكبية….في ظروف التقدم العلْمي – التقني»، وفي هذه الرسالة ذاتِها جرى ابتكار مصطلح ومفهوم العولمة/ الكوكبة ذاته – غْلوباليزاتْصيا globalization = гᴧᴏbαᴧuʒαӌuяعلى أوْسع نطاق ورؤْيوياً (في رؤيةٍ أوْ نظرة شاملة).

أعود إلى التوثيق المفهومي المصطلحي المتصل بصيغتِنا التعريبية الأثيرة التي ابتكرناها وتعاملْنا معها مبكراً تماماً وفي ميادين كثيرة ومتنوعة، لكنَّ توثيقي هنا سينطلق من منتصف التسعينيات ويقتصر على ذلك أيضاً، – أعني صيغة الحداثية والحداثوية…إلخ وتالياً الإنسانوية والاجتماعوية وغيرها، وقبل ذلك عندنا: العلْموية والتقنوية ثم الشعْبوية[3] ومن طرائف هذا الأمر أنني استشرتُ رئيس مجمع اللغة العربية السابق د. شاكر الفحام حول أيهما أصح القول خلوي أم خليوي فأجاب: بل الخلوي لأن أصل خلية المؤنَّثة من خليّ المذكر وخلِيّ تقاس على عليّ وكما يقال عليّ ß علوي كذلك الحال مع خليّ (أو خلية) إذْ يصيران: خلوي. فانظر يا صاحبي كم أن جذور هذه الصيغة عتيقة وموغلة في القِدم عربياً أي تستطيع القول أنها عريقة فلا غريبة ولا أعجمية ولا تستدعي أيَّ استهجان.

أعود إلى توثيقي المباشر: في منتصف أيار عام 1996 (15/5/96) نشرْتُ في مجلة دورية محلية سورية وشعبية بل «جيش – شعبيّة» مقالةً بعنوان «بين التقنوفوبيا والتقنوية –العِلْمويّة: المعلوماتية والعالَم النامي»[4] وقد طُبعت وانتشرتْ على الرغم من فرْط شعبية متابعيها ووفرة نُسَخِها وسعة توزيعها بعشرات ألوف النُّسَخ وعلى ما فيها من مفردات ومصطلحات غير أليفة حينها بعد، إنْ لم نقل أنها بدتْ حينَها مبتكرةً تماماً وجديدةً كلياً: كل هذا لم يعق الصدور والانتشار، ولا أرى في ذلك إلاّ سعةَ صدرْ وانفتاحَ عقْل وحرارة قلْب موجَّهة جميعاً صوبَ المستقبل بحرارةِ إيمان وتوقُدِ ذهن وإرادةٍ خلاّقة لصنْع هذا المستقبل، مما توفَّر  كلُّه وجميعاً حينَها ونفتقر إليه الآن حتى في دورياتنا الثقافية الرصينة (أو الزاعمة للرصانة)، بل وربما حتى الفكرية أو الأكاديمية المدَّعية التي باتت تُثْقِل عليها حتى أمورٌ كهذه كان يتقبلها الوسطُ البسيط والعاديّ والثقافيّ المتواضع، ولا أجد في خلاصات ومآلات هذا المسار وهذا المصير ولا أقْرَأُ فيه إلاَّ إسفافاً وهبوطاً وانحطاطاً ثقافياً وفكْرياً لا يستحقّ منَّا إلاَّ الرّثاء إلى درجة البكاء لهذه النهايات البائسة وغير المبشِّرة ولا الواعدة. المقصود من التقْنوية والعلْموية، كما قد يكون صار واضحاً الآن هو المذهب التقني والمذهب العلمي أي التوجُّهان الفكريّان الممجّدان للتقنية وللعلم المتفائلان بهما والمتمحْوران المتحلِّقان حولهما، أو تستطيع القول هما مذهبَا وتوجُّها التقنوفيليا والعلْموفيلْيا– أي الشرَه والشَوق والتَوق إلى العلم والتقنية مثلما الشرَه إلى الماء في التفاعلات الكيميائية – الهيدْروفيليا، وهذا هو تماماً عكْس الفوبْيا التي تعني التوجُّس والخوف والرُّهاب والتي أتت في صدر العنوان –تقْنوفوبْيا أي رُهاب التقنية أو الخوف والتوجُّس منها، وبَعد استخدام الفوبْيا في صدر العنوان لم يكن مناسباً تعريض القارئ والمتابع لِصدمةٍ أُخرى تأسيسية بطرح مصطلحَيّ التقنوْفيليا والعلموْفيليا فجاء بدلهما مصطلحان تأسيسيان بدورهما يخففان الصدمة – من جهة ويفتحان آفاقاً وتنويعاتٍ مصطلحيةً جديدة أُخْريَات بالدلالةِ ذاتِها تقريباً لأن التقْنوية التقْنوفيليا، والعلْموية العلْموفيلْيا، وهما معاً عكس التقنوفوبْيا أو العلموفوبْيا (افتراضياً) مما هو موضوع المقارنة في المقالة «بين… و…».

ومن المفيد والدالّ جداً أنْ تنتبه إلى أن الفوبيا هذه وهنا هي التي دشَّنت بالعربية لاحقاً كافة أنواع الفوبيا الشهيرة والتي باتت الآن أشهر مِن نارٍ على علم، ومنها بخاصة الإسلاموْفوبْيا، بمعنى أنني أَزْعم أنَّ من زعم أنه مؤسِّسُ مصطلح إسلاموْفوبيا على حواف الألفية الجديدة ومبتكرُه لم يفعل شيئاً أكثر مِن نقْل هذه الفوبْيا ملصوقةً بالتقنية ومنشورةً لنا منتصف التسعينيات كتقنوْفوبْيا ليجعلها ملصوقة بالإسلام كإسلاموْفوبْيا، وفي سائر الأحوال لم يعتد لا  عربُنا ولا عربانُنا لا على الوفاء ولا على الإسناد أو الإرجاع إلى الأصول فكله يمثِّل دور «ما عندي خبر». وبالطبع أعرف اسم هذا الداعي الزاعم جيداً لكنني أأنف عن ذكره، سيَّما وأنني وثَّقْتُ له مزاعم وادعاءاتٍ أُخرى «لابتكاراته» على حافة الألفية حول «نظرية المثلث الاستراتيجي العربي»(؟) والتي دبج فيها عشرات الزوايا في صحيفة تشرين وهي عائدة لنا من عام 1988/1989 في صحيفة البعث.

هوامش المؤلِّف في النصّ مرتبَّةً سِياقيّاً

1 – المصطلحات المعبِرة عن تراثِنا بين العروبية والإسلاموية؛ مجلة «المعلومات»، ع54، آذار 1997، دمشق، ص48-49.

2 – العالم النامي والنِظام الدولي الجديد…؛: مجلة الشهر، باريس – دمشق، ع 29/ أكتوبر 1995، ص24-26.

3 –الشعْبويةpopulism انتشرتْ مؤخَّراً وفجأةً مع موجة ترامب واليمين والمحافِظين في أوروبا، ولم يوجد المصطلح عربياً على أرض الواقع الثقافي (بالمعنى الأعمّ لدلالة الثقافة) قبل أسابيع وشهور، وسنجد وكالعادة وتوثيقاً – كما في مئات حالات شبيهة خبرناها ووثَّقْناها أيضاً – أننا كنّا مَن أطلق المصطلح والمفردة سبقاً وريادةً منذ سنوات عديدة وعلى الأقل منذ عام 2009 وحضَر مراراً في منشوراتِنا بدايةً في تسجيل بعنوان «فوضى «علم العلم» في الثقافة العربية» (تدوين 17/10/2009) ممَّا ذهب فصلاً رابعاً في كتابنا: علم العلم والابستمولوجيا (نظرية العلم ونظرية المعرفة)؛ في سلسلة «قضايا راهنة»، العدد 51، شباط/فبراير 2010، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، دمشق.

وجاء ضمن هذا الفصل وفي ص ص 33-34 من الكتاب المذكور ما هو شعبوي كمفردة – صار شعبويةً لاحقاً كاتجاهٍ وكتأنيث – فورَد النص التالي: «إننا أمام ما يمكن تسميته علم العلم الشعبويبوب  علم العلم – قياساً على البوب ميوزيك والبوب أوبرا…. إلخ وتيمُّناً بها، وقد نصل في ذلك إلى نهايتِه القصوى في ما يُعرف عربياً، وعلى نطاقٍ عريض نسبياً ولكنّه غير معروف تماماً بَعد، بالعلْمولوجيا، فما هو هذا البوب علم؟….». قبل مفردتنا هذه – الشعبوي والشعبوية – كانت تسود أساساً في العربية توصيفات شعبي وشعبية فقط.

ومما هيَّأ لمزيد منَ الانتشار الثقافي عربياً للمصطلح – عدا ما ذُكِر هنا في الكتاب – أنَّ الفصل بمجمله توزَّع نَشْراً على أكثر من دورية قبل الكتاب وبَعده، كما يلي: 1 – ما هو أوْ ما هي العلْمولوجيا؟؛ أسبوعية «الأسبوع الأدبي»، دمشق، ع1184 في 30/1/2010، ص23. 2 – علم العلم بين الوهْم والحقيقة؛ مجلّة/ فصلية «الخيال العلمي»، دمشق، ع23، حزيران 2010، ص6-15.

4  –  بين التقْنوفوبْيا والتقْنوية – العلْموية: المعلوماتية والعالَم النامي؛ «جيش الشعب»، دمشق، 15/5/1996، ع1779، ص32 – 33.

 

*الحداثة Modernity والحداثِية Modernism وما بعدهما …. Post

الدكتور معن النقري