ثقافة وفن

من أنت بغير الناس

منذ مدة ليست بالبعيدة في قياس الزمن، لكنها غاية في البعد والنأي والقسوة بقياس العواطف والذكرى، وهو يحيا من دون أصدقاء! ولأنه لا يستطيع الحياة دونهم -أي الأصدقاء الذين رباهم في الصحو وافتقدهم في الغفلة-، صادق مقعد حديقة، كان صديقا مسالما كتوما صبورا منتظرا بترحاب دائم وكأن مسند الظهر فيه والمقعد ، يرحبان فيه بالأحضان كلما اقترب ودنا منه، وهكذا استمرا على هذا الحال كل الصيف وربع الشتاء تقريبا.

انتبهَ إلى ذلك بأسى وهو يمضي ليلته الأخيرة وحيدا قبل أن يلج أربعينه، وكانت مرارة هذا النبيذ لا تحتمل، عندما وضع الزجاجة من يده، وبدأ الماضي يمرّ في خاطره كشريط سينمائي ملون ولكن باهت وقديم.

“ما من صديق إلا ويستحق رصاصة في رأسه” من قال هذا؟ أحيانا يصدق هذا القول الذي لا يعرف قائله، وأحيانا أخرى يخترع لهم أعذارا، هم ذاتهم لم يقدروا على الإتيان بمثلها كحجة دامغة، كأن يعذر أحدهم لأنه ربما مات! من يعرف ماذا يجري في بلد مجنون كهذا بين اللحظة والأخرى.

في المطبخ كان يبتسم وهو يضع ركوة القهوة على الغاز، مبتهجا بعدة ذكريات مفرحة راحت تلف في جسمه كله مثل نمل يسير بشكل منتظم تحت جلده، أصابته القشعريرة من برودة البلاطات حيث وقف حافيا، فانتبه على القهوة تغلي، باللحظة ذاتها التي عادت فيها الكهرباء، وهكذا ولج أربعينه بصحبة القهوة الفائرة والكهرباء السعيدة وبضعة ذكريات مفرحة، ربما حقيقة، وربما صار يتخيلها، الساعة الثانية عشرة صباحا تماما، ابتهج وانفرجت أخشاب صدره قليلا، فقد جاءت ضيفته البارعة الدلال، المشرقة، المشعشعة، فرح بقدومها قليلا، وشعر وكأن كل أجهزة البيت الكهربائية تعايده وترسل له القبل من المقابس والأضواء التي اشتعلت كلها دفعة واحدة في الحي، وكلها دخل نورها قلبه، فانكشفت له الرحابة دفعة واحدة، وأضاء قلبه بفكرة لمعت توا، إنهم الناس، الأصدقاء الدائمون، بأمانهم، بجيرتهم، باطمئنانهم إليه واطمئنانه أليهم، الناس الذين من المهم أن يكونوا بخير ليكون بخير والعكس صحيح، فإن لم يكونوا الناس هم الأصدقاء، من يكون!.

تمّام علي بركات