ثقافة وفن

أوحد..

كانت بالنسبة له كوناً بأسره.. لم تكن عيناها ملكاً لها.. كانتا وطناً لحلم أودعه فيهما سراً.. ونسيه هناك عمداً في عمق يختزل الوجود بنظرة..

فتاته غافلت الزمن وسرقت من العالم حبه واستأثرت به لنفسها فاستطاب الحب البقاء رهيناً لها، وكأنما أحس أنه خُلق لها ولأجلها، وفي سبيل لحظها تكونت كل مشاعر النور في الأرض..

كانت كل تفاصيلها كنوزاً يخبئها في عينيه ويحتفظ بها في روحه منتظراً ليله الطويل ليسردها كلها، وليعيش بها حياة كاملة تشعره أنه حي، ليحيا من جديد كل اللحظات التي عاشها والتي لم يعشها وليقول كل الكلام الذي قيل والذي حُرم من أن يقوله..

تأمله الدائم لها مكّنه من أن يحيط بها إحاطة العارف والمتعايش مع كل ما فيها؛ أحلامها، أخطاؤها، آراؤها، ردات فعلها، صدى رنات ضحكاتها، كان يحتضن كل ذلك بقلبه ويضمه في حناياه بصمت المكتفي بأقل القليل من قربها و بالكثير من حبه..

لطالما تعود أن ينتظرها في مقعد الجامعة، هناك في مكان لا يراه فيه أحد، يجلس مترقباً متلهفاً تغمره سعادة اللقاء الأول؛ سعادة تتكرر في كل مرة، وفي كل لقاء، هو يعيش حلمه، حتى انتظارها بالنسبة له كان حلماً لا يريد الصحوة منه، شعور يغمره بالعلو والرغبة باحتضان الكون، يسمو به إلى أن يطال السماء ويمضي به نحو الأبدية..

وبين الغفلة والحقيقة، يتجسد الحلم، تصل مبتسمة، يتبادلان التحية ويبتسم ابتسامة غير المبالي المتباهي بقوة أظهرها ليدفن داخله ألماً يزداد قسوة، فلطالما تعود أن يتعالى على جرحه ويكابر كي لا تشعر بضعفه، من دون أن تعلم كانت تقتله كل يوم ألف مرة وتحييه ألف مرة، وهو يتلقى وجعه بألم الألم وبصمت الرضا، هو يعلم في عمق نفسه أنها ليست له، لكنه الأمل الذي لا يكف عن الظهور في الوقت الخاطئ ومع شخص لم ولن يكون له يوماً..

ذهبا إلى مدرج الجامعة، حضرا المحاضرة سوية، كالعادة كان يكتب وراء الأستاذ المحاضر وهي تفضل الاستماع، يكتب فقط دون النظر إليها، كان يكفيه شعور القرب فقط حتى تنقلب كل موازين الروح لتغمره بإحساس سرمدي يسري بنبضه ولا يكف عن الإلحاح عليه حتى يسيطر على كل نفس، إحساس يحبس أنفاساً تجول داخله حد الاختناق المحبب لتختار موعد خروجها هذه المرة كما تحب لا كما اعتادت..

انتهت المحاضرة، وصلتها مكالمة هاتفية، لملمت أوراقها وكتبها، وضعتها في حقيبتها ومضت، حملت معها كل شيء ومضت..

مضت دون أن تلتفت إلى الوراء، سرقت روحاً بأكملها، وحياة بأسرها، وتركته وحيداً شبه حي بعد أن سلبته كل ما فيه، وكل ما يشعره بأنه على قيد الوجود ومضت..

لن تذوق مرارة الحياة حتى تُبتلى بحب ليس لك، يكون وطنك الذي ينفيك، وروحك التي ترفضك، ويديك التي تجلدك، ترقبه من بعيد وتمزق قلبك متعمداً وأنت تقنع ذاتك في كل لحظة أنه ملك لغيرك، تبقى تائهاً بين حبك ووجعك، ورغماً عنك يغلبك الحب الذي يفضل مرارة اللقاء على بعد لا تملكه، ينتصر وجعك الذي يحييك على الشفاء الذي يقتلك..

هدّأ قلبه المرتجف داخله وأمسك بروحه التي حاولت الانسحاب.. لملم وجعه المرّ .. حمل كل همومه وضياعه في قلبه المتعب.. ومضى..

 

هديل فيزو