“حكايات تروى في جبل العرب”.. قصص لذاكرة تتحدى النسيان
هناك حكايات خرافية، هي تلك التي تعتمد شخصيات وأمكنة وأحداثا ميتافيزيقية، كحكايات المردة والغيلان والجن. وثمة حكايات شعبية، وهي تلك التي تقدم أمثولة أو درسا أخلاقيا أو اجتماعيا. فإن الحكايات بنوعيها الخرافي منها والشعبي لم تأت لتزجية الوقت فقط، وإنما كان لها وظائف خفية يستطيع الدارس أن يميزها حينما يدرس أثر الحكاية في نفس المتلقي، وتأثيرها على سلوكه، ونموه الفكري والأخلاقي. مع أن (فريدريش دير لاين) أشار إلى (أنه يجب أن نحذّر أنفسنا من أن نرى في الحكاية الخرافية شاهدا على حكمة عميقة، أو إدراك خفي لجوهر الحياة). إلا أنه عاد وأكد أن (الحكاية الخرافية ليست بثرثرة عجائز، ولا هي اختراع صرف، وإنما هي ملك الشعب، ونتاج قواه الشعرية).
أنواع الحكايات: الحكاية التي تناقلتها الشفاه، وتواترت من جيل إلى جيل هي حكاية شعبية بصرف النظر عن نوع أبطالها، واقعيين كانوا أم ميتافيزيقيين. حكايات شعبية ميتافيزيقية: هي التي تعتمد مكانا ميتافيزيقيا ليس له مرتسمات على أرض الواقع عالم تحت أرضي قصور تظهر فجأة.. الخ. كذلك شخصيات ميتافيزيقية مردة، غيلان، جن بكل تحولاته، بمشاركة شخصيات واقعية. حكايات واقعية افتراضية: وهي التي تعتمد مكانا واقعيا افتراضيا (قصر – سوق – مدينة) غير موجود على أرض الواقع لكنه مشابه لما هو في الواقع. وشخصيات واقعية افتراضية (فتاة – تاجر – ملك)، مع حدث فنتازي (انتقال غير طبيعي تصرف غير منطقي) حكايات تعتمد مكانا واقعيا افتراضيا: (قصر – سوق – مدينة)، وشخصيات واقعية افتراضية: (ملك – وزير- تاجر) مع حدث واقعي غير تاريخي، لم يحدث فعلا مع إمكانية حدوثه في الواقع. حكايات تعتمد مكانا واقعيا حقيقيا (الشام – بغداد – مصر) وشخصيات واقعية حقيقية: (هارون الرشيد – أبو نواس – جحا). وحدث واقعي غير تاريخي، يمكن حدوثه لكنه لم يحدث فعلا.
يتألف كتاب” حكايات تروى في جبل العرب”، لمؤلفيه د. ثائر زين الدين وفوزات رزق، من ثلاثة فصول ومن ثلاثة أنواع من الحكايات. الأول: حكايات شعبية تروى في منطقة جبل العرب (جنوب سورية) ولا تُروى في مكان آخر. والثاني: حكايات سمعها المؤلفان في جبل العرب، ولكنهما وقعا لها على روايات مشابهة في مناطق سورية أخرى، بصياغات تختلف قليلاً أو كثيراً عنها. والثالث: حكايات أطلقا عليها اسم (سيرة وانفتحت)، ويحاول المؤلفان في البحث النظري الأول، تأصيل مفهوم الحكي، وإلقاء الضوء على سحره الذي يستولي على المتلقي فلا يعود يهتم لواقعية الحدث المروي، بمعنى أنه لا يسأل عن الكيفية التي خرج بموجبها المارد من القمقم.. أو كيف دخل إلى القمقم من قبل، بل يريد أن يعرف ماذا فعل المارد بعد خروجه، ليتابع تلك الأحداث بشغف.
وبعد صدور هذا الكتاب الهام، الذي وجدنا فيه محاولة جادة وسعي حثيث، للحفاظ على تراثنا السوري وتوثيق حكاياته. قال الدكتور ثائر زين: “نستطيع القول إن الحكاية ساهمت مساهمة كبيرة في خلق منظومة تربوية اجتماعية، وبالتالي كان لها دور كبير بضبط حركات الفعل في الحياة الإنسانية اليومية من جهة واتساع الآفاق الثقافية والفكرية من المخزون التراثي من جهة أخرى، والحكاية الشعبية لها مجموعة من المقومات والعناصر الأساسية التي من شأنها أن تكون أكثر تشويقاً وتميزاً، وذلك بخلق الأرضية والمناخ المناسب لاستقبالها ويكون وقعها على نفس المتلقي أكثر انسجاماً مع ما يحمل من خفة الظل ودماثة المنطق من صاحب الحكاية وراويها أمام الناس واكتساب الحضور جواً من الآداب الخاصة كالتنصت بهدوء واستماع بكامل الجوارح والإمعان بالكلام والسرد والاستفادة من الأحداث في الأفعال اليومية، وحل الكثير من المشاكل والمعوقات التي تعترض الحياة، إضافة إلى اكتساب ثقافة ذوق الاستمتاع والحوار المتجدد التي بتنا نفتقر إلى تلك الثقافة في مجتمعاتنا ومنتدياتنا”.
كما قال الباحث فوزات رزق: “المواد الفنية الأساسية في التراث الشعبي، تضم وتتضمن قضايا تاريخية وإنسانية، تتمحور أجزاؤها حول السرد لأحداث اجتماعية فيها العبر والحكم والعظة الحسنة، وهي تساهم بشكل فعال في نظام المجتمع لأن التاريخ المعاصر حمل بطياته الكثير من الوقائع والأفعال التي تلتقي بها المفردات اللغوية العربية بين منطقة وأخرى إضافة إلى أن الحكاية الشعبية تتشابه في مضمونها وتختلف في شكلها ولكن معناها واحد في المناطق العربية المتعددة على الرغم من قلة الباحثين الذين بحثوا في أصول ونشأة وماهية الحكاية وتاريخها وأثرها الإيجابي أم السلبي على المجتمع، وكيف كانت تشارك الأهل والأجداد في حل الكثير من النزاعات والخلافات الاجتماعية، عندما كان يجلس كبير القوم والشيخ الوقور في مجلس يضم مجموعة من فئات المجتمع المختلفة بعضهم متخاصم مع بعض الآخر ورجل العقل يبدأ بالتمهيد للمصالحة بسرد حكاية اجتماعية تحمل تهدئة النفوس وتقريب وجهات النظر وخلق الحلول الناجحة لفك الخلاف والنزاع بين صفوف وأفراد المجتمع”.
كتاب (حكايات تروى في جبل العرب) من الكتب الجديرة بالقراءة والاهتمام وهو من الكتب الهامة والنادرة التي توثق وتؤرخ لقصص وحكايات، موغلة في القدم وهي من أهم قصص النوادر والطرائف والحكم والعبر. تتناقله الأجيال على مر العصور. الكتاب من إصدارات وزارة الثقافة – مديرية التراث الشعبي- يقع في 352 صفحة من القطع الكبير.
البعث ميديا || أحمد عساف