مجتمع

مكافأة الأمومة والترادف المزمن بين المرأة والأم

هناك مغالطة دائمة التكرار حين يتم الحديث عن دور المرأة في الحياة، هذه المغالطة هي الترادف المزمن بين (المرأة والأم)، حين تناقش مجتمعاتنا دور المرأة ومسؤولية المرأة، وطبيعة المرأة، نفاجأ بأن كلمة المرأة قد انقلبت من دون مقدمات إلى كلمة (الأم) وأصبح الحديث عن دور الأم ومسؤولية الأم وطبيعة الأم.

ولكن حين تناقش مجتمعاتنا دور الرجل وطبيعة الرجل، تظل كلمة الرجل على حالها، ولا تنقلب إلى كلمة (أب)، وبالتالي لا يتحول الحديث عن دور الأب ومسؤولية الأب وطبيعة الأب، بل يبدأ الحديث وينتهي عن الرجل كإنسان يعمل ويفكّر ويبدع ويتفلسف، وإذا حضرت المرأة مناقشة القضايا الفكرية العامة نجد إلحاحاً لإقحام أمومتها، فهي في الحب تروي الحبيب ابناً وطفلاً مدللاً تغفر له كل الخطايا، كما تفعل الأم، وفي الفن والإبداع ليست المرأة إلا كتلة من الأحاسيس والعواطف تجسّد احتضانها للعالم، كما تحتضن الطفل، وهي تؤيد السلام العالمي لأنها بحكم الأمومة لا تريد للأطفال أن يشبّوا في عالم مهدد غير آمن.

إن خطورة الترادف بين (المرأة والأم) متعددة ومتداخلة الأبعاد في المجتمعات العربية، فقصر دور المرأة على الأم، وعدم تصوّر النساء إلى أمهات، عاجلاً أو آجلاً، يختصر قيمة المرأة ومكانتها كإنسانة متكاملة ذات عقل وجسد، إلى مجرد (رحم) يقوم بوظيفة بيولوجية اجتماعية محددة، فالأمومة مع تقديرنا لعظمتها ودورها، ليست إلا جانباً واحداً من جوانب الحياة الكثيرة المفتوحة لقدرات ومؤهلات المرأة، الأمومة مهما عظم شأنها، تظل عاجزة عن امتصاص كل طاقات النساء، وبالتالي لا تشعرهن بالتحقق الإنساني المتكامل.

إن اختصار النساء إلى (أرحام) لهو اختصار متعصّب وعنصري، وإن كان دائماً يتخفى، ويتجمّل وراء أسماء برّاقة خادعة مثل طبيعة المرأة أو مصلحة الأسرة، وهنا نجد أن الترادف بين المرأة والأم، يجرح مشاعر النساء اللائي اخترن لظروف مختلفة عدم الإنجاب، فهناك نساء لا يستطعن الإنجاب لاعتبارات صحية خارجة عن إرادتهن، وسواء تمتعت المرأة بقيمة فكرية وإبداعية، أو كانت مجرد عاملة أو ربة بيت، فليس للمجتمع أو لأي شخص أن يُشعرها بالذنب لأنها لم تنجب، تماماً مثلما لا يُسأل الرجل أو يُحاكم أو يُنتقص من قدره لأنه اختار عدم الأبوة، هناك نساء لم ينجبن ولهن قيمة في الفكر والإبداع تفوق النساء اللواتي أنجبن، وقيمة الرجال الذين أنجبوا، ومن هنا فإن تفسيرهم سلوك المرأة ومشاعرها ودوافعها وعلاقاتها بالعالم بالرجوع إلى الغريزة، وهي هنا غريزة الأمومة، يخل بفهم الظواهر الإنسانية المعقدة، وإن سلوك الإنسان ومشاعره ودوافعه وعلاقاته بالعالم لا تفسر بالغرائز، فهذه ظواهر مركبة تتشابك فيها العوامل الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، وبالتالي يكون إرجاعها لمجرد الغريزة تبسيطاً مخلاً يعوق الفهم والمعرفة المتكاملة، إضافة إلى ذلك فإن إرجاع سلوك الناس، وتفسير حياتهم بالرجوع إلى ما نسميه الغريزة، يلغي المسؤولية الفردية تجاه اختيارات الحياة المتنوعة، أو على الأقل يسطع دورها في بناء الإنسان لمصيره، على هذا فإن القول بسيطرة غريزة الأمومة على تفسيرنا للمرأة (هذا إذا اتفقنا على أن الأمومة مجرد غريزة) لا يعطي للمرأة أي فضيلة، ولا يعدّ مدحاً بأي شكل من الأشكال، فهذه الغريزة قد منحت للإناث من جميع الكائنات وليس فقط لأنثى الإنسان وفوق كل هذا فإن الحديث عن الغرائز، غريزة الأمومة، أو الغريزة الجنسية، فالأمر أعقد مما نتصوّر.

في البداية نتساءل عن تعريفنا للغريزة: أهي الشيء الفطري الثابت، به نولد ونموت من دون تغيير يُذكر؟ هل الغريزة تركيبة فكرية ونفسية وبيولوجية تورث بحكم التراكم عبر آلاف السنوات؟

نعم، الغريزة دافع فطري طبيعي، لكننا لا نفهم الفكرة أو الطبيعة على أنها (المايسترو) الذي يهيمن على البشر، فيبدون في مواجهتها لا حول لهم ولا قوة، وإنما المقصود بالفطرة أنها أحد الأبعاد الأساسية التي تصنع علاقة الذات بالآخر، سواء كان هذا الآخر مجرد شخص أو العالم، ثم إن الغريزة ليست شيئاً ثابتاً، إنها في حالة تغيير لا يعكس هذا التغيير الانتماء الحضاري المختلف من مكان لآخر فقط، ولكن يعكس أيضاً تطور الشخص ذاته عبر مراحله العمرية، فالإحساس بالغريزة عند إنسان يعيش في مجتمع عربي تختلف عنها عند إنسان يعيش في مجتمع أوروبي مثلاً، والغريزة عند الإنسان وهو في سن العشرين تختلف عن الغريزة والإنسان في سن الأربعين أو الخمسين، فإذا تناولنا غريزة الأمومة، ترى أتشعر الفلاحة الريفية الفقيرة بالنوع نفسه من الأمومة مثلما تشعر به امرأة في المدينة تحيا حياة مرفهة؟ وهل غريزة الأمومة عند امرأة لها استقلالها الاقتصادي والنفسي، ولها دور فكري وإبداعي في المجتمع مثل غريزة الأمومة عند امرأة تابعة، مقهورة لا تعرف من العالم الخارجي إلا ملامح زوجها؟

نحن لسنا ضد الأمومة ولسنا ضد أن تصبح النساء أمهات، لكننا ضد (تضخيم) الأمومة باسم الغريزة لتصبح هي كل حياة المرأة، والمرجع الأساسي لعلاقة النساء بالحياة، ونحن ضد (تضخيم) الأمومة للمرأة في مقابل (تهميش) الأبوة للرجل، إذا كانت المرأة تملك ميزة إضافية عن الرجل وهي (صنع البشر) فعلينا مكافأتها بالمزيد من فتح النوافذ المغلقة أمامها، وللمرأة مميزات إنسانية اكتسبتها من خلال قدرتها على منح الحياة، وهي مميزات تبرر لها المزيد من الانطلاق والتحقق والتحرر في المجتمعات العربية.

د.رحيم هادي الشمخي – أكاديمي وكاتب عراقي