عندما يتقن “السّوري” اقتصاد الضّرورة.. والحكاية من طقوس كرم الزيتون
تشكل يوميات قطاف وحصاد المواسم والأرزاق عند السوريين متسعاً من الإنتاج لا يقتصر عند حدود الإنجاز، بقدر ما هو فرصة لعقد قران الأرض بالإنسان، بالصيغة والمفهوم اللذين تربى عليهما كائن الجغرافية السورية منذ القديم، هي خصوصية من الأنماط والطقوس والسلوكيات مسرحها الكروم والبساتين والحقول والبيادر، تشهد عليها جبال وسهول وهضاب التنوع في المحاصيل والمواسم الزراعية التي تشكل ميزة “الغنى” بالبعد الاقتصادي، إن بدأت ببسملة “التين والزيتون”، فلن تنتهي عند تشكيلة الحمضيات والتفاحيات واللوزيات، مروراً “بمد العين والبصر” من الخضار والفواكه وسهول الحبوب وما لف لفيفها.
في روزنامة المحاصيل تعيش الأرياف والكروم هذه الأيام “عز” جني ثمار الزيتون، الذي وإن لم يك على قدر حسابات الفلاح “بسبب المعاومة” وتراجع حمولة الأشجار بالقياس للعام الماضي، إلا أن للحدث فعلاً ومفاعيل، لا يدرك تفاصيلها الجميلة سوى من يمارس ويشارك في النشاط الذي يستلزم مشاركة الكبير والصغير، لأنك تتعامل مع جمع وتجميع حبات لا تصنع فرقاُ إلا “باللملمة” ليصار إلى ناتج من الزيت الميمون، وهذا ما يستلزم عديداً من المتأبطين بالجلَد وحب الجمعة عند أناس يلبسون الفجر “برداً وسلاماً” ويتدفقون أفواجاً باتجاه الكروم، حيث هدير الصباحات وضجيج الحياة، في بيئة خريفية تحمل قليلاً من البرد لا يكسرها سوى نار الحطب تحت إبريق اتشح بسواد “ندرة المحروقات وغلائها” وفي داخله بياض دفء العمل ومتعة ارتشاف كأس من الشاي أو المتة على إيقاع إيذان الفجر وانقشاع صحن السماء بشفق الإيمان بالعمل وبركة “كبارية الضيعة” لزيتون ناضج يلمع تحت خيوط الشمس وصوت جدة تصرخ على أحفاد يتراكضون على حبات يوجع المرور فوقها قلب من زرعوا وتعبوا حتى كبرت الأشجار.
في حيثيات التعامل مع محصول الزيتون ثمة حاجة لوقت طويل لتصل إلى كمية من الإنتاج، الذي حرمته ظروف البلد ومواصيل مابعد الضغوط والحصار من ضرورات السماد والمبيدات والري، فكانت القلة دافعاً لوصول سعر الصفيحة في أرضها “أي قبل أن تتحرك من تحت مزراب المعصرة” لنحو 250 ألف ليرة في محافظة حمص، و300 ألف ليرة في السويداء، في وقت ارتفعت تكاليف القطاف والنقل لتصل يومية “القاطوف” إلى 15 ألف ليرة وأجرة النقل لأقرب مسافة من الحقل للمعصرة إلى 40 ألفاً بسبب ندرة المحروقات.؟..
هذه المواصيل حرضت الكثيرين من موظفي أبناء الريف ممن هم مالكون أو حتى غيرهم لاستثمار حيازاتهم مهما كانت قليلة وجني ما يتيسر تجنباً للشراء غير المتاح بسبب الغلاء، في حين لجأ الكثيرون للحصول على إجازات، والعمل في القطاف مقابل أجر يعادل أضعاف ما يتقاضاه كموظف دولة أو قطاع خاص، ومعظم من جرب الحالة يكتشف من اللحظات الأولى مدى التقصير الذي جناه بحق نفسه جراء الحرمان من متعة الاحتكاك بالحقول والتعامل مع العمل الزراعي الذي يسحب ما بداخل المرء من عوالق نفسية وينظف الروح من الضغوط ليعود إنساناً كامل الصفاء والنقاء، هي دعوة لا يمنع أن تكون وطنية لنكون أمام تجربة لطالما كانت حاضرة في أرشيف البلدان المتيقظة، مفادها إشراك الطالب والعامل والموظف والأهم المسؤول في استصلاح ورعاية الأرض وقطاف وجنى المحاصيل في مبادرات تدعم الفلاح في أرضه وترفع من معنوياته من جانب وتعطي الجميع فرصة تفريغ الطاقات السلبية واكتساب الإيجابية في مستشفيات الطبيعة مجاناً وبلا مقابل.
بكل الأحوال قد يشكل الموسم حالة من التأزم عند مزارع يعاني الأمرين في قطاع مريض ومنهك جراء داء نقص مناعة المستلزمات، وغلاء الاحتياجات وتراجع المردود، ومع ذلك، مايزال التعامل مع الأرض مصيراً محتوماً لا يمكن العزوف عنه، حتى ولو لعن الفلاح حظوظه ألف مرة بالدقيقة، فالمسألة هنا مرتبطة بزمرة الدم المجبولة برائحة التراب، حيث يلحظ المراقب حالة من العودة إلى النشاط الزراعي ولو من نافذة “الزراعات الأسرية والحقلية البسيطة” تحت ضغط الحاجة، وما يمكن نعته باقتصاد الضرورة، فالسوري وحده من يتقن فن التحايل والالتفاف على الظروف، أما الأرض ولأنها أمّنا لا بديل عن العودة إليها، لأننا بلد لطالما افتخرنا بأنه زراعي، والأم كما يقول الفكر الجمعي “الشامي” “بتلم” وهذا هو العشم..
علي بلال قاسم