(فإن غداً لناظره قريب)..
ما قصة القول المشهور (فإن غداً لناظره قريب)
ومن هو قائله؟
هذا هو الشطر الثاني من بيت تمامه:
فإن يك صدر هذا اليوم ولّى
فإن غداً لناظره قريب
وقد اشتهر الشطر الثاني موضع السؤال وتردد في كلام الناس جارياً مجرى الأمثال، على أنهم لا يكادون يذكرون اسم قائله ولا مناسبته وللبيت قصة بديعة من قصص الوفاء والمروءة ترجع إلى العصر الجاهلي، وهي قصة تحمل كل علائم الوضع، ولكن ذلك لا يذهب بجمالها وطرافتها وتمثيلها بهذا النوع من الفن القصصي الذي برع في نسجه أصحاب الأخبار والأسماء من العرب القدماء.
وتذكر هذه القصة أن ملك الحيرة (النعمان بن المنذر) خرج في رحلة للصيد في بادية الحيرة بالعراق، فذهب به فرسه في الصحراء وراء حمار وحشي، وانفرد عن أصحابه، ثم أمطرت السماء وأدركه الليل، وأعيا الملك البحث عن مكان يلجأ إليه حتى رأى بناء فطرق بابه، وخرج إليه من البيت رجل من قبيلة (طيء) يدعى (حنظلة) فأكرمه واحتفى به وهو لا يعرفه، على عادة العرب في إكرام من يطرقهم من ضيوف، وبات الملك عنده ليلة، فلما أصبح قال له: يا أخا طيء اطلب ثوابك، أنا الملك النعمان، فلم يطلب الرجل شيئاً ولكنه وعد الملك بالوفود عليه في الحيرة دار ملكه، ودارت الأيام وأصاب (حنظلة الطائي) جهد في حياته وسوء في أحواله، فاقترحت عليه امرأته أن يفد على النعمان لعله يذكر له سابقته ويبسط عليه إحسانه، وفعل الرجل، فلما وافى الحيرة إذا بالنعمان واقفاً في خيله وسلاحه، وكان هو يوم بؤسه، وكان للنعمان يومان في السنة (يوم نعيم لا يفد فيه أحد عليه إلا كافأه وأجزل عطاءه، ويوم بؤس لا يقدم فيه عليه أحد إلا وقتله).
وهنا سأل النعمان حنظلة الطائي حاجته من الدنيا قبل موته:
فطلب حنظلة الطائي من النعمان أن يمهله عاماً يعود خلاله إلى أهله فيهيء أحوالهم ويودعهم ثم يرجع إليه، فوافق الملك النعمان على ذلك إلا أنه طلب منه كفيلاً يضمن له وفاءه بكلمته، ونظر الرجل إلى أصحاب الملك ثم تقدم إلى أحدهم وهو (الشريك بن عمرو الشيباني) فطلب إليه أن يكون كفيله، إلا أن شريكاً أبى ذلك، وحينئذ قدم إليه رجل يدعى (قراد ابن أجدع الكلبي) فأعلن النعمان موافقته، وأمر النعمان لحنظلة بخمسمئة ناقة يتجهز بها إلى أهله.
فلما كادت السنة تنقضي ولم يبق من الأجل إلا يوم واحد، ولم يقدم الطائي، قال النعمان لكفيله (قراد) ما أراك إلا هالكاً غداً، فقال قراد:
فإن يك صدر هذا اليوم ولّى
فإن غداً لناظره قريب
وبعد أن جلب (قراد) إلى ساحة القتل في وادي (الغريين) في الحيرة واجتمعت حوله الناس من كل حدب وصوب، إذا برجل يمتطي فرسه ويدنو من ساحة القتل، وإذا به (حنظلة الظائي)، وينظر إليه النعمان، ثم تدور بينهما هذه المحادثة:
ما الذي حملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل؟
– الوفاء.
وحينئذ يعلن الملك النعمان بن المنذر بطلان سنته في القتل في يوم البؤس ويعفو عن (قراد الطائي)، وكان مما قاله في ذلك اليوم (والله ما أدري أيهما أوفى وأكرم، أهذا الذي نجا من القتل فعاد، أم هذا الذي ضمنه؟ والله لا أكون إلا أكرم الثلاثة).
إعداد: د.رحيم هادي الشمخي