ثقافة وفن

“أكتافيو باث”.. كوكب بريّ خارج مداره

“منذ زمن طويل وأنا أكتب قصيدتي بدافعٍ غامض لا أدري ما هو بالضبط، وكيف يدفعني؟ ولماذا؟ على ما يبدو، فإن الشعر يكمن ويتخفّى ويفاجئ وينفجر في كنز لغة الشاعر في ما بعد، وهو لا يُنال مباشرة، إنما بالتمرحل والتقصّي، ثم إنني لا أعرف حتى الآن، كيف ستكون عليه قصيدتي (وأنا أكتبها)، اللهم إلا بعدما أنجزها وأقرؤها مكتوبة، فالقصيدة دائمًا، هي مصادفة واحتمال حدوث”.. بهذه العبارات المقتطفة من حوار طويل، وصف الشاعر المكسيكي من أم إسبانية “أكتافيو باث”-1914-1998،علاقته بالقصيدة، معلياً من شأن المدهش والمفاجئ والعفوي، على حساب المحسوب والمباشر والمقصود في الشعر، أحد أهم شعراء أمريكا اللاتينية دون منازع، لا تصدر عنه القصائد وكأنها “فواتير”، بل هي من نتاج وجوده بكامله، وما وراء هذا الوجود أيضاً، وهذا طبيعي في شخصية أدبية فذة، شكلت مخيالها أرض الأساطير الخصبة في أمريكا اللاتينية.

ثقافتان أثْرتا العوالم السحرية، الثقافة الهندية الأصلية السّابقة للوجود الكولومبي، والثقافة الإسبانية المعاصرة الغربية، ليجيء هذا التمازج المدهش بين السحري والواقعي الذي نجد صداه في مختلف أعماله الإبداعية الشعرية على وجه الخصوص وكأنه نتاج أكثر من شاعر معاً، ليس من حيث التنافر في صياغة القوالب الشعرية، بل من حرفيّته -التي تبدو للقارئ كأنها تلقائية وعفوية وهي على العكس تماماً- في جعل نصّه الشعري مؤسّساً على الصورة، التي تشتغل ببلاغة بارعة على وضع المجاز واللغة والعالم على قدم المساواة، في تقديمها للمحسوس السامي منه وعكسه، ليضع “باث” بهذا المعنى قصيدته ليس في مواجهة العالم فحسب، بل إنها تحاول حتى أن تحتويه كمخلوق جديد، وإن كان هذا العالم سابقاً للقصيدة.

أكتافيو باث الحائز على جائزة نوبل للآداب 1990 ليكون بذلك أول شاعر وأديب مكسيكي يفوز بهذه الجائزة، والذي تحلّ اليوم الذكرى ال24 لرحيله،كسر الاحتكار الأوروبي للشعر في العالم الغربي، فحاز شعره محبّة كل من قرأه بلغته أو مترجماً، إن كان بالدهشة التي تولّدها مفرداته الشعرية المشحونة بطاقة إيحائية فريدة فعلاً، أو بأسلوبه البارع في تأسيس الصورة الشعرية لنصّه، أيضاً بالإيقاع الذي يقول عنه “أكتافيو”: إنه ليس هو النغم فقط، بل هو إذا جاز التعبير الشكل الذي ينتظم القصيدة، لحناً وفكرةً ولغة.

من أشعاره:

“كنتِ في نهارٍ آخرَ/كنتِ بجانبي/ورأيتكِ كالثلج/ نائمةً بين المظاهر/فالزمن يبتكرُ من دون معونة منّا/بيوتاً، شوارعَ، أشجاراً ونساءً نائمات/وحينما تفتحين عينيكِ/سنمشي من جديد بين الساعات ومبتكراتهن/سنمشي بين المظاهر/سنُثْبتُ للزمن وتصريفاتِه/وربّما سنفتح أبوابَ النهار فنَدخُل المجهول”.

من مراحل حياته:

ولد أكتافيو باث عام 1914 في إحدى ضواحي مدينة مكسيكو العاصمة لأب مكسيكي وأم من جنوب إسبانيا.

نشر باث أول أشعاره وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم التقى بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا وتأثر بشعره. وفي عام 1936 شجّعه نيرودا على زيارة إسبانيا لحضور مؤتمر الأدباء بمدينة فالنسيا، وكانت الحرب الأهلية الإسبانية على أشدّها في ذلك الوقت.

شملت كتابات أكتافيو باث الشعر والفن والدين والتاريخ والسياسة والنقد الأدبي، ونشرت له خمسة دواوين شعرية صدر أولها سنة 1949 وآخرها سنة 1987.

ومن أهم أعماله التي كرّمتها الأكاديمية السويدية عندما منح جائزة نوبل على كتابه “متاهة العزلة” الذي صدر سنة 1961 وحاول فيه باث أن يتحرّى عن شخصية الإنسان المكسيكي ويسبر أغوارها، ومن أشهر أعماله أيضاً “حرية تحت كلمة” و”فصل من العنف” و”فلامنورا”.

منح أكتافيو باث عدة جوائز أدبية رفيعة من أهمها:

جائزة ثيربانتس -وهي أكبر جائزة أدبية تمنح لكتاب اللغة الإسبانية- عام 1981.

جائزة ت. س. إليوت من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1987.

 

تمّام بركات