صناعة النحاس.. حرفة الفن والإبداع
تعد صناعة الأواني النحاسية من أهم الحرف اليدوية في دمشق، وكان لها سوق يدعى سوق النحاسين بالقرب من الباب الصغير، يهتم بصنع الأواني النحاسية اليدوية، وكان الحرفيين يستوردون صفائح النحاس من أوروبا، ويطرقونها في حوانيتهم، ويصنعون منها أواني مختلفة الأشكال حسب الحاجة.
إلى وقت ليس ببعيد، فكان يؤم السوق أهل المدينة والضواحي، إضافة إلى أهل حوران، والمنطقة الجنوبية عموماً، و في البادية وغيرها، لابتياع لوازمهم من القدور والمراجل للحليب والتخمير والتجبين، وغير ذلك من الأواني النحاسية المختلفة.
لقد تراجعت هذه الصنعة وعلى الأخص عندما بدأت أوروبا تصدر لبلادنا أواني الألمنيوم للطهي والغسيل والأدوات المنزلية، أو من الحديد المصفح (التنك) أو من (التوتياء المدهون)، ثم ظهرت في الأسواق بعد ذلك أنواع مختلفة من الأكواب والأطباق من المواد الصلبة غير القابلة للكسر، كما انتشرت صناعة البلاستيك، فأربكت هذه الصنعة
هناك قسم من سوق النحاسين في دمشق مخصصاً لأرباب صناعة الصب والسكب (أي صهر النحاس وسكبه في قوالب تأخذ أشكالاً مختلفة)، وكان النحاس الأحمر والأصفر يصب في هذه السوق لتصنع منه أو من خلائطه وخلائط الرصاص آلات مختلفة، كآلات الزينة للخيل والعربات، وكان النحاس الأصفر يُصب لتصنع منه محابر الكتابة و(الهاون) والملاعق والشوك ومطاحن البن والمناقل والصواني والشمعدانات وملاقط النار)، كما كان يمزج النحاس بمقدار معلوم من القصدير بدلاً من الرصاص لتصنع منه النواقيس والأجراس والصنوج والآلات الموسيقية النحاسية ذات الصوت الجلي المدوي.
لحرفة الصب والسكب ملحقات متعددة من الحرف الأخرى، إذ تعتبر حرفة الصب والسكب النواة المحركة لنشاط حرف الخراطة، والنشر، والثقب، والتسوية، وصنع القوالب الخشبية، والرسم المهني، إلى غير ذلك من الحرف والحرفيين المتممين لحاجاتها.
الزخرفة على النحاس:
أما الزخرفة على النحاس فهي تعتمد اعتماداً تاماً على الخط والرسم الزخرفي، ولا بد لمحترفيها من أن يتقنوا الخط والرسم أولاً، ثم إنها كمثيلاتها من الحرف اليدوية الدقيقة تحتاج إلى التحلي بالصبر ودقة الملاحظة، أما المواد الأولية المستخدمة فيها فهي صفائح النحاس الأحمر والأصفر، بسمك يتراوح بين 7 – 8 دوزيم إلى 1،5 مم، ويتفرع عن هذه الحرفة، الحفر أو (النقش) والتجويف، وتنزيل الفضة والذهب، ثم الكبس، فالتخريق.
تحتاج هذه الحرفة إلى عناية بالنقوش الزخرفية العربية، ورسوم الأشخاص، والحوادث التاريخية كالمعارك الهامة في تاريخ الوطن العربي، ورسوم كبار الشخصيات التاريخية، وغير ذلك من رسوم الطيور والسباع، وعلى الرغم من ضرورة إتقان الرسم والخط بالنسبة لأرباب هذه الحرفة فهي موزعة إلى اختصاصات على أفراد الورشة الواحدة، أو على عدد من الورشات بمعنى أن حرفياً ما قد يقتصر عمله على (التخطيط والرسم) وآخر على (تنزيل الذهب والفضة) وآخر على (التجويف)، وآخر على (النقش) وآخر على (التخريق) وهكذا، ونادراً ما تجتمع هذه الخبرات كلها لدى حرفي واحد، ما خلا تفهم الجميع لأصول (الرسم والخط) إضافة إلى اختصاصاتهم في مجال الحرفة.
و أن أعمال الزخرفة على النحاس عديدة وواسعة وقديمة وستظل طالما ظل الحرفي السوري معنياً بتحقيق الغرض الجمالي إلى جانب الغرض النفعي لكل قطعة ينتجها، خاصة أن عمله الزخرفي لا يختلف كثيراً في دقته عن الدقة المطلوبة لحرفة الصياغة، إلا بضخامة القطع النحاسية بالنسبة للمصوغات الأخرى، وإن اختلف المردود المادي تبعاً لاختلاف قيمة الذهب والفضة عن النحاس بالطبع، أما الإخلاص والتفاني في العمل فلا يقل لدى أي حرفي عن آخر.
صناعة الدلال ومصبات القهوة والمكاحل والأواني النحاسية أن هذه أيضا حرفة متوارثة ولكنها تقتصر على صناعة الدلال النحاسية للقهوة
وما شابهها، وهي على أنواع منها الدلال الصغيرة والكبيرة ومصبات القهوة العربية المرة ذات الموقد الداخلي، وبعض القطع التزيينية الصغيرة من نماذج المصبات والدلال والمكاحل وصحون السجائر النحاسية التي غالباً ما تكون سكباً أو صفائح مطروقة ومزخرفة.
أخيراً: نعتقد أن الحرفة لم تزل محافظة على انتعاشها وحيويتها، وما تزال منتجاتها منتشرة في أكبر معالم دمشق التاريخية.
البعث ميديا || إعداد صفوان الماضي