مساحة حرة

بين العقل والجنون

أحمد حسن

مرة أخرى تعود المنطقة، وسورية قلبها، لتدنو من شفا حفرة الجنون الدموي، ومرة أخرى يكون السبب رهاناً جديداً بإمكانية إركاع سورية واستتباعها عبر “غزوة” جديدة، تنطلق هذه المرة من جنوبها، بعد أن فشلت غزوات الجهات الأخرى إلا في زيادة مساحة الدمار والدماء.

وبكل بساطة ووضوح، “غزوة الجنوب” هذه، هي معركة أمريكية بالتحديد، وليست معركة هذا أو ذاك في منطقتنا كما تصوّر بعض وسائل الإعلام، فإذا كان من الصحيح أن بعض العرب يتصدّر الواجهة ليبدو بمظهر صاحب الأمر، إلا أن الأمر معقود اللواء للعم سام ولا أحد غيره، وما يبدو من انفلات هنا وهناك ما هو إلا فوضى منظمة ومقصودة لخدمة فوضى واشنطن الخلاقة كما تسميها، وبهذا الإطار، فإن ما يحكى عن عودة رهان السلاح، بعد إفشال مسار جنيف، ليس صحيحاً بالمطلق، فلغة السلاح لم تغب لحظة واحدة، وأوهام الحسم العسكري لم

تتبدد بعد، وكل ما في الأمر أن الغزوة الجديدة التي تقرر توقيتها بين زيارة ملك إلى أوباما، وزيارة أوباما إلى ملك آخر، ليست إلا خطوة أخرى في مخطط هجوم شامل من أجل تسوية شاملة لعالم سلمت واشنطن أنه ينتقل من تحت عباءة القطب الواحد إلى عباءات أقطاب متعددة، لكنها تحاول ضبط خسائرها فيه والتقليل منها، أما الخطوات الأخرى فتمتد من العراق إلى مصر وإيران وأوكرانيا وفنزويلا وأفغانستان، وبكلمة أخرى على امتداد رقعة المصالح

والمنافع الاستراتيجية.

وبهذا السياق تحديداً يمكن أن ندرج التوقيت الغربي والعربي لجلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة غداً، بعد ثلاثة أيام فقط من قرار مجلس الأمن الدولي حول الحالة الإنسانية في سورية، الذي سيستخدم، بغض النظر عن مضمونه، كوسيلة ضغط أخرى، خاصة وأن عملية تحريف منطوقه بدأت قبل أن يجف حبره وحتى قبل أن تنخفض الأيادي التي ارتفعت للموافقة عليه.

بيد أنه من الواجب، في هذا المجال بالتحديد، توجيه عدة أسئلة لدعاة الإنسانية الكبار: أولها كيف سينفذون مضمون القرار الجديد، وهم الذين لم ينفذوا، بحسب الأمم المتحدة ذاتها، تعهداتهم في مؤتمر الكويت لدعم المهجرين، كما لم ينفذوا تعهداتهم في المؤتمر الذي سبقه بعام واحد؟!، وثانياً: هل سيوقفون، بسبب القرار الأخير، عدوانهم الاقتصادي الآثم ويرفعون حصارهم وعقوباتهم غير المشروعة عن الشعب السوري كله؟، علماً أنها السبب الأكبر في مأساة السوريين وآلامهم، والأهم: هل سيحاسبون بعض دول الجوار التي سرقت ودمّرت، بالتعاون مع مجموعاتها في الداخل، مقدرات سورية ومواردها النفطية والزراعية والصناعية بل والتراثية أيضاً؟، وبالطبع لن ننتظر الأجوبة لأن تاريخهم يقول: إنهم لم يتباكوا مرة على حقوق إنسان في أي مكان من الكرة الأرضية، إلا وبكى دماً بدل الدموع بعد ذلك.

لكن اللافت فيما يحدث أن القراءة المتمعنة والمتعمقة لوقائعه، تعيد التأكيد على حقيقة أن التاريخ غالباً ما يكرر ذاته، فالدول التي حاربت الوحدة السورية-المصرية، وقد مرّت ذكراها بصمت مريب ومحزن منذ يومين، وحاربت كل من يحمل نزعة استقلالية وطنية سابقاً، هي ذاتها من يخوض حرب اليوم ضد سورية وغيرها من حكومات القرار المستقل، لذلك، ولأن للتاريخ، وهو خير معلم، درساً آخر أيضاً مفاده: “ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا”، فالمواجهة يجب ألا تقتصر على الدفاع والممانعة، وإذا كان الهجوم خير وسيلة للدفاع كما يعرف الجميع، فإنه اليوم خير طريقة لترجيح حظوظ العقل في سباقه مع الجنون على مستقبل منطقة يخطط بعض ساسة الفوضى لجعل حريقها المقبل يستمر لمئة عام مقبلة؟.

البعث