مساحة حرة

الارتقاء بمشروع البعث ..حاجة وطنية وقومية ؟

يمر الفكر العربي المعاصر بحالة من الضبابية والفوضى نتيجة تكثيف الأزمة في المجتمعات العربية ، وضرب مكامن القوة لديها وإبعادها عن العقلانية والعلمية في بناء نهضتها ، ومن أجل ترسيخ مفاهيم وقيم مجتمعية جديدة غير مستمدة من الثقافة العربية أومن الإرث الحضاري والأخلاقي الذي تمتع به العرب في مرحلة سابقة ، لتحل المحلية والقبلية والمذهبية كأساس بديل لعلاقات العرب بعضهم ببعض ، ولضرب الفكر القومي العروبي الذي استطاع خلال النصف قرن الماضية التي تلت التحرر الجزئي من القوى الاستعمارية إعادة رسم تكوين جيوسياسي واقتصادي جديد للأمة مبني على قيم أخلاقية وإنسانية توحيدية لرسم مستقبل الأجيال القادمة وفق مقتضيات التنمية الشاملة ، ظهر خلالها حزب البعث العربي الاشتراكي كحامل صادق ومحرض رئيس لانبعاث عهد جديد مختلف كلياً عن قرون الظلام التي عطلت العقل العربي عن العمل فترة طيلة الحكم التركي وما تلاه من حملات استعمارية ، وهذا ما يؤكد اليوم بأن الارتقاء بمشروع البعث النهضوي هو حاجة وطنية وقومية انطلاقاً من منظومة القيم والمفاهيم التي يتحلى بها البعث من جهة ، ولارتباطه العضوي بالجماهير الشعبية على الساحة الوطنية والعربية التي لم تزل تختزن في ذاكرتها ووجدانها الموقف العروبي المقاوم والصلب للبعث من جهة أخرى .

  إن عملية الانتقال من واقع تسود فيه عقلية القتل والجريمة وتكفير الآخر باسم مكون ما مهما كان نوعه ( سواء كان ديني أو إقليمي ..أو غيره ) تقع بالدرجة الأولى على عاتق القيادات الحزبية ومدى قدرتها على التفاعل الايجابي مع الجماهير الشعبية الواسعة التي مقتت الشعارات البراقة ولغة الخطاب النظرية التي لم تنسجم مع الواقع القائم ، ولم تتمكن من تطوير ذاتها بما ينسجم وثورة الاتصالات والمعلوماتية الجديدة التي كشفت العورات بطريقة غير قابلة للتجميل بعد ذلك ، وبالتالي فإن عملية الارتقاء والنهوض بالعمل الحزبي من جديد تحتاج إلى عملية انتقال حقيقي من حالة الترميم والبحث في الإصلاح إلى مرحلة العمل الخلاق المبدع الذي يُعيد ثقة الجماهير الشعبية بهذه القيادات والاستماع لها والتفاعل معها وقبول ايديولجيتها بما يُلبي مرحلة التغيير الكاملة في المنهج وليس بالضرورة في المبادئ ، السؤال الذي يطرحه كل مواطن غيور يتوق إلى وطن موحد قوي تصونه القيم النبيلة والثقافة والفكر النيرين ، بما في ذلك البعثيين أنفسهم هو : هل بإمكان القيادات الحزبية القائمة لعب هذا الدور ؟ وما هي الوسائل والحاجات اللازمة لإنجاح هذا المشروع المتكامل ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ؟

  إن عملية التطوير الشامل في البنى الثقافية والفكرية والعقائدية للمجتمع تتطلب قبل كل شيء أن يكون الفرد أو الحزب الذي ينوي القيام بذلك مؤمن بهذا العمل ، والإيمان ليس مسألة اعتقاديه أو قناعة بديهية يتم التعبير عنها في المحاضرات والاجتماعات والندوات العامة فقط ، بل يجب أن يكون ترجمة سلوكية يومية يُثبت فيها البعثي مقدرته على التضحية والعطاء كقدوة حسنة للمجتمع حتى تُصبح عملية التواصل مع الجماهير ممكنة بسهولة ويسر وعن قناعة بأن هذا المشروع يحمل في طياته كل عوامل النجاح ، بعد مرحلة الحرب الظالمة التي أدت لتعميم لغة الفرقة ونشر ثقافة الجريمة والعداء المصطنع ، من هنا نجد أنه من أولى مهام القيادات البعثية التركيز على إعادة قراءة الواقع التنظيمي للبعث بدقة وشفافية عالية وتحليله علمياً ووضع التصورات المنطقية للخروج نحو مستقبل أفضل ، ويأتي قرار القيادة القطرية بإعادة تثبيت العضوية للأعضاء في الحزب خطوة هامة وجيدة في هذا المجال تستطيع القيادات الميدانية وضع خارطة حقيقية للقوى الحزبية المؤهلة والبناء عليها كقاعدة أساسية للانطلاق باتجاه الجماهير الشعبية الأخرى ، كما يُساهم في تحديد الأشخاص والمجموعات الذين سيكون لهم الدور البارز في حمل عبء نشر الثقافة الوطنية والقومية للمرحلة التالية .

  لا نُخفي وجود تفاوت كبير في مستوى أداء القيادات المحلية ( الفروع – الشعب ) ، حيث تميز البعض منها بجدية ومسؤولية انعكست نشاطات يومية تلقفتها الجماهير الشعبية بايجابية وتفاعلت معها بعفوية لترميم الهوة التي ولدتها المرحلة السابقة ، في نفس الوقت لم يزل هناك البعض من القيادات تقليدية في أدائها وعاجزة عن القيام بأي فعل خلاق ومبدع وإن دورها يُشكل عامل معرقل للأولى وحاجز أساسي في طريق إنجاح المشروع النهضوي للبعث ، وليس من المناسب هنا تحديد من يعمل ومن يعرقل ، لأنه من اختصاص القيادات المركزية التي من واجبها إجراء عملية تقييم شهرية وليس سنوية  لأن المرحلة حساسة ولا تتحمل المزيد من التجارب الفاشلة ، من أجل إزاحة كل من يُثبت بأنه عاجز عن المشاركة الحقيقية في إنجاح مشروع نهضة البعث ، وهم كثر ويُمكن للقيادة معرفتهم بسهولة من خلال مواقفهم ودورهم في قيادة المرحلة ( المكتوب يُقرأ من أول سطر إذا لم يكن من العنوان ) !

محمد عبد الكريم مصطفى

Email: Mohamad.a.mustafa@Gmail.com