ثقافة وفن

الفنانون السوريون والأزمة.. الغالبية وقفت مع الوطن وقاومت دعوات الفتنة والتفرقة

وضعت الأعمال الدرامية السورية التي عرضتها الفضائيات المحلية والعربية خلال شهر رمضان المبارك الفنانين السوريين مجدداً في دائرة الضوء، وشكلت مع مجمل حراكهم الاجتماعي والسياسي خلال سنوات العدوان، حالة بحثية، تهدف هذه الدراسة – انطلاقاً من المنهج الوصفي – إلى تقصِّيها ومعرفة راهنهم السياسي مما حدث من فعل ورد فعل في الأزمة والجغرافيا الاجتماعية والسياسية السورية، ودورهم كمستقلين وأعضاء في قوى اجتماعية وحزبية ونقابية في العمل السياسي، وفق ثنائية “الوطن والآخر” والوقوف مع “البلد” أو ضده.

وفي استهلال أولي، فقد كان متوقعاً منهم ومعهم كتاب ومنتجو الدراما المحلية والعاملون في البنية التحتية لهذا الفن، أن يواصلوا ما كانوا بدؤوه قبل خمس سنوات، وقبلها بعقود، وأن يكون عام /2015/ عام توسيع الدائرة و”البيكار” في التعبير عن مواقفهم من الهم الوطني بتداعياته اليومية والمرحلية، وبعديه الداخلي والخارجي.
لكن، وبعيداً عن المضامين التي تناولتها الأعمال الدرامية تجاه مدى قربها أو بعدها من نبض الناس وهموم البلد ويوميات الإرهاب، وحتى جودتها فنياً وغناها فكرياً، فإن الحديث – ولعله الجدل – الذي كان دائراً خلال الأشهر الأولى لبدء العدوان على سورية عام /2011/ وبصدد مواقف الفنانين السوريين آنذاك، تجاه ما يجري من عدوان، والذي أدى فيما بعد إلى وقوف غالبيتهم مع بلدهم، هو حديث فرض حضوره مجدداً خلال شهر رمضان الماضي في بيوت السوريين ومقاهيهم وجلساتهم المسائية، ورافقه رصد ونقد لدور الدراما السورية كمعبرة عن الراهن “بحلوه ومره” وسفيرة لبلدها إلى كل بيت ومكان، وعلى امتداد الجغرافيا المحلية والإقليمية والدولية.
وإذاً، يناقش هذا البحث موقف الفنان السوري تجاه وطنه، وفق ثنائية “الوطن والآخر” ويراوح مسيره بين فرضيتين، تدور الأولى حول موقف وطني جسده الفنان في حراكه اليومي وتشبثه ببيته وتراثه وحضارته، انطلاقاً من قيم وجدانية ووطنية ومعرفية، وتذهب الثانية إلى موقف نفعي مصلحي وفردي كان واضحاً في سلوك آخرين، لينتهي في خلاصة البحث إلى ترجيح واحدة منهما.
هذا، وإن ترجيح أيّ من الفرضيتين لابد أن ينطلق من وضع جملة مؤشرات منهجية، والقياس بموجبها، والاستدلال منها إلى نتائج وخلاصات، تجيب على سؤال البحث، وتحدد موقف الفنان السوري في هذه الحالة، وكيف كانت اتجاهاته القيمية التي تبناها أو انحرافاته المعيارية التي سلكها.
إذاً، وعبر المنهج الوصفي، وقد يساوقه المنهج التاريخي، حيثما يستوجب البحث في تقصي الراهن السياسي للفنان السوري تجاه ما يعتمل بلده، يمكن القول: إن فناني سورية وقفوا – في توصيف أولي – موقفاً وطنياً، وعبروا بالكلمة والموقف، والدم والعمل الفني، عن موقفهم من “الدولة والأزمة”، “البلد والفوضى” و”المجتمع والإرهاب”، وصوب ما أفرزته هذه الثنائيات من تساؤلات إشكالية وقضايا جدلية.
ومثلما دفعت الأزمة مختلف شرائح السوريين إلى الانتقال من حالة “الكمون” في الأشهر الأولى للعدوان، إلى الانخراط الفاعل تالياً في الحدث، وطرح إشارات الاستفهام والتعجب عن أسباب الأزمة وتداعياتها، وأثر العامل الخارجي فيها، فإن الفنانين كغيرهم، كانوا في صلب هذا الحراك الاجتماعي، وحركوا “مياهاً راكدة” وخاصة المؤثرين منهم، وقادة الرأي.
وكان أنْ تابعنا خلال السنوات الخمس الماضية حضوراً لافتاً للفنانين السوريين بين الناس وفي المقاهي والشوارع القديمة والأمسيات الثقافية والتجمعات الوطنية، وأيضاً عبر “الشاشة الصغيرة”، ومع الأخذ بالحسبان اختلاف آليات هذا الحضور واتجاهاته، وصوب جدية وحدية القضايا الجدلية المطروحة، والتي ترتبت – صعوداً وهبوطاً – عن هذا الحضور.
وفيما يلي عرض لجملة المؤشرات المنهجية التي اعتمدها البحث، والخلاصات المنهجية التي خرج بها، وهي:

تفاعل الفنان مع محيطه الاجتماعي
لا حياة للفن والفنان في مناطق غير مأهولة، لا بشر فيها، وإنما بين الناس، يتحرى نبضهم، ويسير سيرهم، باتجاه مواز، فيتقدمهم أو يتأخر عنهم، لكن لا يفارقهم لأنه مواطن مثلهم ومنهم، فيدخل بيوتهم من دون استئذان، يحاكي همومهم، ويتبادل وإياهم الأسئلة الصادمة والقصص والحكايا، يسجل الموقف ويقدم للحالة ونقيضها، فيغدو كالحامل الاجتماعي لهمومهم المعيشية، والمحرك الفكري لرؤاهم الاجتماعية والسياسية تجاه بلدهم ومحيطه الإقليمي والدولي.
ولأن الناس تراقب وتتابع – بفضول ومن دونه- تحركات الفنان، وتتابع أخباره وترصد مواقفه، فإن تفاعله اليومي مع محيطه الاجتماعي وموقفه وآرائه من الحدث السياسي والفعل السياسي، يكاد يكون محكوماً بهذا الفضول، وربما تأثر به – إيجاباً أو سلباً – وربما ذهب البعض في تفسير موقف الفنان، غير ما يريده الفنان ذاته، وبشكل عام يمكن القول: إن الفنان السوري تفاعل بشكل جيد مع محيطه الاجتماعي.

المشاركة في   النشاطات اليومية والوطنية
تابعنا خلال السنوات الخمس الماضية حضوراً لافتاً للفنانين السوريين في الحياة اليومية والنشاطات الوطنية، وعلى اختلافها، ما بين نشاطات شعبية وأيام وطنية ومناسبات ومهرجانات فكرية وثقافية وفنية في كل الجغرافيا السورية.
ولعل أهم حضور سجله الفنانون السوريون على صعيد المشاركة المباشرة في الحياة اليومية، والنشاطات الوطنية، إنما كان على صعيد دعم جهود الجيش العربي السوري في مواجهة المجموعات الإرهابية، وإعادة الأمان والاستقرار إلى عديد المناطق التي استباحها الإرهاب، وكان متوقعاً من كثيرين منهم أن يسارعوا إلى تقديم الأعمال الدرامية التي تتناول دور الجيش، والأغاني التي تعرض بطولاته وتضحياته، والمشاركة في المبادرات التطوعية لدعمه، مثل التبرع بالدم، وزيارة حواجز الجيش، وتقديم الهدايا الرمزية، والمشاركة في المسيرات الوطنية، والوقفات الشعبية، وواجب العزاء، وكافة المبادرات التي كانت تهدف إلى تعزيز صمود الجيش، وكان حضور الفنانين السوريين على وسائل الإعلام- تجاه دعم الجيش تحديداً- عاملاً مؤثراً في زيادة الاحتضان الشعبي له، لدرجة أن اللباس العسكري بات الأكثر طلباً وارتداء عند السوريين، وخاصة الإناث، صغيرات وكبيرات، ومنهن فنانات.
إذاً، وفي خلاصة معرفية مستنتجة من هذا المؤشر يمكن القول: إن غالبية الفنانين السوريين شكّلوا علامات فارقة في الحالة الوطنية، سواء داخل سورية أو خارجها، وبالرغم من ضراوة العدوان، وساطور المجموعات الإرهابية، ورصاص القنص، وإغراءات المال السياسي الخارجي، لدرجة أن بعضهم استخدم ثقله الاجتماعي– بالمطلق- في هذا المجال، وأحرق كل مراكبه، وسار وفق خيار واحد لا بديل له أو عنه، هو الوطن ولا غيره، ومنهم من استشهد، أو جرح وتعرض للضرب، ولكن لم يدفعهم الخوف والقلق للانتقال إلى الضفة المقابلة.

دورهم كقادة رأي عام
يعد الفنان قائداً للرأي العام في كل بلاد الدنيا، وبدرجة أقل من المؤثرين فيه، وخاصة حين يكون له جمهوره الواسع، ودعونا نتذكر أن الكثير من فناني هوليوود يجري استقطابهم عالمياً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدام نفوذهم وتأثيرهم على الناس في تشكيل رأي عام يدعم جهود واشنطن وخططها في كل القضايا والأزمات الدولية، ولا يفوتنا هنا الزيارات المتواصلة للممثلة الأمريكية “انجلينا جولي” إلى مخيمات النازحين والمهجّرين السوريين في تركيا والأردن، والانطباع الخادع الذي أقحمته في أذهان متابعيها عن الأزمة السورية، ومقابل هذا الدور المدفوع ثمنه مسبقاً، يسجل ممثلون آخرون من دول العالم مواقف إلى جانب الحقيقة، ومن عديد دول العالم.
وإذا ما انتقلنا وفق هذا المؤشر للحديث عن الفنانين السوريين، فيمكن ملاحظة أن غالبيتهم قد استثمروا في رصيدهم الاجتماعي عند الناس لعرض الحقيقة والمنطق والعقل، وساهموا بتشكيل رأي عام داعم لموقف الدولة، وعبّروا بمواقفهم اليومية، وأعمالهم الدرامية عن عمق التزامهم بسورية، وهذه الأرض التي أحبوها.
إذاً، لم يكن غريباً أن نرى الفنانين يهتفون للوطن في طليعة المسيرات المليونية والشعبية في كل المحافظات السورية، ويشاركون في وقفات التأييد أو الاعتصام والتنديد أمام ممثليات الأمم المتحدة ومنظماتها الإقليمية والدولية، وسفارات الدول التي دعمت سورية، والتي وقفت ضدها، ومن منا لا يذكر وقفتهم الاحتجاجية في القاهرة أمام مقر جامعة الدول العربية، في ذروة تآمر الجامعة على سورية، لدرجة أنهم تعرضوا للضرب والاعتداء الجسدي.
كما ينبغي الإشارة إلى دورهم كقادة رأي عام خارج سورية، وبالرغم من سطوة أنظمة الاعتلال العربي، وإغراء المال السياسي، إلا أن ذلك لم يجعلهم في وارد المقايضة بالبلد، أو المساومة عليه.
كما كان لهم دورهم في تكوين رأي عام داعم لجهود الدولة في مسارات الإصلاح السياسي خلال السنوات الخمس، وما تطلبه ذلك من موقف داعم للانتخابات الرئاسية التعددية، والدستور الجديد، والقوانين الإصلاحية، مؤكدين أن إقرار دستور جديد هو عامل من عوامل وقف العدوان، وضمانة لإعادة الاستقرار الاجتماعي والسياسي للبلد، وباتجاه متابعة خطا الإصلاح والحوار لتجاوز الأزمة، وقد استثمروا ظهورهم الإعلامي في مختلف البرامج الفنية والحوارية، ولم يمنعهم ذلك من الإشارة إلى الاختلاف في وجهات النظر تحت سقف الوطن، والإشارة إلى مكامن الخطأ والفساد، وأهمية مواصلة الحوار.
لقد شكّلت مواقفهم التضامنية من تداعيات العدوان التي أصابت السوريين، عاملاً إضافياً على صعيد تفاعلهم مع محيطهم الاجتماعي، سواء في إدانة المجازر، والتواجد بالمكان شخصياً، والتنديد بأعمال القتل والخطف والتدمير والسيارات المفخخة ورصاص القنص، وضرب البنى التحتية، وسرقة المعامل والقمح والنفط ونهب وسرقة الآثار، وكانوا في المكان حيثما وحينما تطلب الأمر ذلك.
وبالمقابل، أطلق بضع عشرات منهم، وبعضهم داخل سورية، مواقف في الارتهان إلى الخارج، ولم يميزوا في تعريفهم للأزمة، ورصد تداعياتها بين ما هو واقع، وما هو مزيف، وبين ما هو حقيقي وما هو خادع، وابتعدوا في مواقفهم عن نبض الناس وأنينهم اليومي، فوقعوا ضحية الآخر وغرائزيته –عن قناعة ومن دونها– ونسوا دماء عشرات آلاف الشهداء والجرحى التي روت تراب سورية وفلسطين ولبنان، خلال العدوان الحالي والعقود الماضية، وظنوا في لحظة- خادعة وربما غادرة- أن البلد في طريقه إلى المجهول، وأن الأجدى بهم اللحاق بالدبابة الأمريكية، ووضع يدهم بيد الآخر، حتى وإن كان إرهابياً، بالرغم من معرفتهم أن مشغِّله صهيوني!.
والغريب أن كل أعمال القتل والذبح والتدمير– على بشاعتها- واتساع دائرة الاستهداف الخارجي للمجتمع السوري- على خطورتها- لم تردع هؤلاء، ولم تدفعهم نحو إعادة التفكير واستخلاص العبرة، فتخلوا عن محيطهم الاجتماعي الذي صنعهم نجوماً، وشكّل بعضهم رافعة لعدوان الآخر على سورية.

المشاركة في دراما تناقش الحالة الوطنية
شكّلت الأعمال الدرامية عامة، والفنية والمسرحية والغنائية، إحدى أدوات تعبير الفنان عن موقفه مما يجري، قبل العدوان وخلاله، ومن القضايا الوطنية إلى المعيشية، وعبر أعمال نقدية صادمة في كثير من الحالات، وكان مستوى نقد الأعمال الدرامية للأداء الحكومي والنظام السياسي مرتفعاً جداً، وتجاوز الخطوط الحمراء، ما جعل الأعمال الدرامية السورية مطلوبة عربياً، واعتبر العديد منهم، ومعهم كتاب ومنتجو الدراما، أن التفاعل مع المحيط الاجتماعي يقتضي إنتاج أعمال درامية نقدية تحاكي هموم الناس، وتنتقد واقعهم، وتبحث في آلامهم وآمالهم، وكان من بين الأعمال الدرامية العديد من المسلسلات التي تناولت العدوان، ودور المجموعات الإرهابية، وأعمال التخريب والقتل، وانعكاسها على الحالة المعنوية والمعيشية والاجتماعية للناس، وتجاه ما واجهه السوريون من انتقاص لكرامتهم، واعتداء على حياتهم، وتفخيخ بيوتهم ومصدر رزقهم، وما رافقه من تهجير وانتقال من مكان إلى آخر، وفقدان للأب والأم والأخ والابن والصديق، وفقدان ذكريات المكان والصحبة، والألم والشكوى تجاه تأمين متطلبات الحياة ومصاعبها.
لقد حاكت الأعمال الدرامية والغنائية حال السوريين، ومثلما رصدت تداعيات العدوان والإرهاب، فقد عززت مقومات الصبر والصمود، وكانت “الشاشة الصغيرة” لا تنفك تعرض على مدار الساعة مسلسلات درامية وأغاني وطنية تدور حول تعزيز مقومات الصمود، وكانت محطات الإذاعات الوطنية تطلق الأغاني على مدار الساعة أيضاً، ولقد تابعها واستمع إليها السوريون في البيوت والأسواق وسيارات الأجرة والسيارات الخاصة والمطاعم والمدارس والجامعات وفي كل المحافظات، ولدرجة أن الملايين ممن يحملون أجهزة هواتف جوالة كانوا يحرصون على تحميل الأغاني الوطنية وتبادلها، وبعضهم تابع الأعمال الدرامية على أجهزة الجوال.
واستطاعت العديد من الأغاني الوطنية أن ترفع من معنويات الناس وأن تحاصر الإرهابيين، وترد على قذائفهم بالكلمة واللحن، وكان المتابع للشأن وكيفما تحرك في دمشق وباقي المحافظات لا تفارقه تلك الأغنيات، ولدرجة أن بعضها أضحى شعارات وطنية بامتياز.
ودعونا نذكر هنا، أن العديد من الأعمال الدرامية والأغاني الوطنية وكل منتجات الفن كانت تتطلب تكلفة مالية، وكان يتم تقديمها بعضها من جانب الدولة، وكذلك من القطاع الخاص وبمبادرات أهلية وفردية، وكثيراً ما كان الفنان السوري يدفع من جيبه، كي يقدم عملاً فنياً ذا بعد وطني، هذا بالإضافة إلى مواصلة الدولة دورها في شراء الأعمال الدرامية ودعم جهود الفنانين وتأمين معيشتهم ومساندة نقابتهم.
وهنا يمكن أن نسجل أن حرص الفنان السوري على تقديم أعمال درامية توضح حقيقة ما يجري، ورفضه المشاركة في نشاطات إعلامية مضللة ومعادية، كان له الأثر الكبير في نقل هذه الحقيقة إلى فنانين عرب وإقليميين، واستطاع أن يؤثر فيهم ويدفعهم إلى إعادة تحريك بوصلتهم صوب الشمال الحقيقي وليس الخادع.
وطالما أن الحديث ضمن مؤشر الأعمال الدرامية، فثمة برامج يومية في شهر رمضان وأخرى أسبوعية ناقدة وساخرة، كانت تتم بمبادرة من فنانين سوريين، وكان الهم الوطني الحاضر الوحيد فيها، كيفما اتفق عنوان هذه الحلقة أو تلك، وهذا الضيف أو ذاك، وهناك العديد من هذه البرامج ممن حقق هدفه وزاد من الرصيد الاجتماعي الداعم لوجهة نظر المجتمع والدولة تجاه العدوان.

ممارسة العمل السياسي والحزبي والنقابي
لم يقتصر تفاعل الفنان مع محيطه الاجتماعي على العمل الفني والمشاركة الاجتماعية، وإنما تعدى ذلك إلى المساهمة في العمل السياسي والتشريعي والعمل الحزبي والنقابي، والمشاركة الفاعلة في غالبية النشاطات الحوارية والسياسية التي جرت حول العدوان والأزمة، وأيضاً في المؤتمرات التي انصبت على جهود إعادة الإعمار وتنمية الوعي الوطني، وكان للعديد منهم دورهم على صعيد المصالحة الوطنية والتقريب بين السوريين وتفكيك الحاضنة الاجتماعية للإرهاب.
وكان هذا، بالرغم من إصرار الآخرين على التشكيك بمواقف الفنانين السوريين، من مثل التشكيك بمدى قبول الرأي العام لمشاركة الفنانين في العمل السياسي، وكأنهم يجردونهم من وطنيتهم ومواطنتهم، ويرونهم خارج سياق المجتمع وليسوا أفراداً فيه، يفرحون ويبكون لحاله، شأنهم شأن السوريين.
ولقد نسي هذا البعض، الدور الكبير للفنانين السوريين منذ الاستقلال وحتى اليوم، على صعيد القضايا الوطنية والقومية، مثلما نسى أو تناسى أيضاً تضامن الفنانين العرب مع رفاقهم السوريين، وتجاه همومهم وقضاياهم الوطنية والقومية، وربما لم ينتبه إلى أن أغاني فيروز في الهم الوطني كانت الأكثر تواجداً في الساحة العربية، وأنها كانت تطلق هذه الأغنيات سنوياً في حفل “معرض دمشق الدولي” ولأكثر من عشرين عاماً، وأن أغنيتها “خبطة قدمكم على الأرض هدارة” كانت كلمة السر في بدء حرب تشرين التحريرية،  وربما نسي هؤلاء أن الفنان المصري عبد الحليم حافظ قد أرخ لأحداث ثورة تموز /1952/ بأغان وطنية ما زالت حاضرة في البال، وأن أم كلثوم لعبت دوراً لافتاً في جمع الأموال والتبرعات لتمويل الجيش المصري، في إطار خطة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التي سميت “دعم المجهود الحربي” وأن مئات الفنانين السوريين فعلوا مثلهم، بمسارات مختلفة، وهناك عدد كبير جداً من الأعمال السورية على هذا الصعيد، والتي لا مجال لذكرها، وليست مهمة دراسة البحث هذه أن تذكرها، وإنما أن تستنتج منها خلاصات تجيب على سؤال البحث.
كما يتناسى هؤلاء أن الفنان صاحب مشروع فكري وثقافي، وأن العديد من فناني سورية يمتلكون معرفة ثقافية واسعة، ومن حقهم أن يعبروا عنها في النشاطات الاجتماعية والحزبية والنقابية، والسؤال هنا: لماذا يرفض هؤلاء المشككون – وكل من ينتقد وطنية الفنان السوري – أن يروا فنانين يعملون في الشأن السياسي ويشاركون فيه؟.
إن مشاركة الفنان في الشأن السياسي تكريس لمفهوم المواطنة، لا بل هو واجب عليه لما يشكله من قيمة اجتماعية، والأجدى به أن يستثمر تأثيره الاجتماعي في الشأن السياسي، ولا يغيب عن بالنا هنا أن الفنان هو فرد في المجتمع، له حقوق وعليه واجبات، وطالما أن غالبية الفنانين في العالم ينتمون إلى حركات وأحزاب سياسية ويشاركون في الحياة السياسية العالمية ويستخدمون نفوذهم – وكنا قد ذكرنا الممثلة “انجلينا جولي” – فلماذا الأمر ممنوع عن الفنانين السوريين.
ولابد من الإشارة هنا إلى تجاوب الدولة والمجتمع مع رغبة الفنانين في العمل بالشأن السياسي وقد فتحت الدولة والمجتمع كل الأبواب أمامهم كي يعبروا عن رؤيتهم للحياة السياسية والحزبية والنقابية وهموم الناس وعن نظرتهم للإصلاح السياسي، وهناك العديد من الأعمال التي أنتجت لهذه الغاية في السينما والمسرح وعلى الشاشة الصغيرة والإذاعة، ولقد لقيت هذه المشاركة كل الدعم من الدولة والمجتمع والأحزاب وخاصة حزب البعث، ولقد عمل حزب البعث بشكل مباشر على دعم الفنانين، وقدم لهم بالتعاون مع الدولة والجهات العامة ذات العلاقة كل ما يلزم من مستلزمات مادية ومعيشية ولوجستية كي يواصلوا دورهم الوطني، وإن قيم البطولة والانتصار التي عكسها الفن والغناء والدراما في سورية بأعمال فنية جادة وراقية، ما كانت لتتم لولا مساندة المجتمع والدولة والأحزاب وخاصة حزب البعث.

خلاصة القول
إن الاستدلال وفق مؤشرات البحث السابقة يقودنا – في الإجابة عن سؤال البحث – إلى ترجيح الفرضية الأولى، وهي أن الفنانين السوريين كانوا في غالبيتهم إلى جانب بلدهم، وكانوا في مواقفهم مع قيم الحق والمنطق والكرامة الوطنية والعيش المشترك والإرادة الحرة والقرار المستقل والمجتمع والوطن، وأنهم وقفوا موقفاً وطنياً، وسجلوا – حيثما سمح الظرف – انتقادات للأداء الحكومي والتشريعي وسلطات الإدارة المحلية وانتقدوا دور الإعلام، ودعوا إلى مواصلة الإصلاح والحوار واستعادة كل سوري لسوريته، ووقفوا بضراوة بوجه دعوات الفتنة والتفرقة الطائفية وكان شعارهم الوحيد “وطن السوريين واحد، ودينهم وتراثهم وآلامهم ومستقبلهم واحد”.
عمر المقداد