مساحة حرة

عيش مشترك.. أم وحدة وطنية؟

في معمعان هذه الحرب الظالمة التي ترزح تحت وطأتها أقطار عربية، طالما حظيت بوافر من حصاد حركة التحرّر والاستقلال الوطني العربي، تشرئبّ اليوم نواجذ الشرّ الطائفي والمذهبي والعرقي لتعصف بوحدة المجتمع، والوطن، والأمّة.
لقد قوّضت حركة التحرر الوطني العربي منذ بدايات القرن الماضي مختلف الطروحات الأقلّوية في الوطن العربي ودفنتها مع أحقاد الماضي، فتمدّد الشعور الوطني والفكر الوحدوي حتى ظننا في سوريّة وفي بقيّة الأقطار أنَّنا صرنا بمنأى وبمأمن من هذه الطروحات، وظهر مباشرة أنَّ القوى المضادة لوحدتنا ووعينا كانت في مرحلة كمون، فما إن تبدّى المشهد الاحتجاجي العربي حتى سرعان ما تأكّد أنَّه خريف وخراب، ومعه تقدّم الديني على السياسي، والطائفي والعرقي على الوطني.. وانتشر التطرّف فالتكفير فالإرهاب. وعلى هذا الأساس يجب أن تنتج أزمة اليوم «أدبيات جديدة» في الخطاب السياسي الوطني والعروبي.
لم يأتِ هذا من فراغ. ومرحلة الكمون تلك كانت ناراً تلظّى في مراكز الأبحاث الغربية والصهيونية والخليجية التي سرعان ما استطاعت استقطاب مثقفي البترودولار والارتزاق حيث نحن كل يوم أمام بحث أو ندوة أو كتاب فتنوي.
ومع تراجع حضور المجتمع السياسي العربي، ودور مؤسّسات العمل العربي المشترك، تقدّمت إلى الساحة نتائج هذه الأبحاث ناراً في هشيم، فغابت مفردات التنوير والعلمانية في الخطاب الوطني التقدمي «الرفيق – الوطن – التقدّم..»، لتحضر مفردات الخطاب الفتنوي «الجنة – النار – الجهاد – الذبح..» مدعومة بمؤسّسات التضليل الإعلامي المعولمة التي استبدت أدبياتها الوظيفية بوسائل التواصل الاجتماعي إلى حدٍّ كبير، وقامت مراكز الأبحاث تلك بالندوات اللازمة لتشظّي المجتمعات الأهليّة والمدنيّة والوطنيّة والقوميّة.
ليس المجتمع العربي السوري وحيداً في معاناته جرّاء ذلك، وليس هو أيضاً وحيداً في مواجهتها، فمعه أشقاؤنا في مغرب الوطن ومشرقه وأغلبهم وطنيون عروبيون، ولنا في أدبيات خطاب القرن الماضي ألف دليل ودليل، لكن دخول الرجعية العربية في الطور الوحشي التدميري اللاحق للطور الامبريالي الصهيوني صعّد من حدّة هذه المواجهة في السنوات الأخيرة، وللأسف كُتِبَ النجاحُ، وتحقّق الانتشارُ المؤقّت لهؤلاء – وحوش العصر- على مسرح الحياة العربية المعاصرة. لكننا سنرى قريباً هزيمة هؤلاء مع نتائج عودة الوعي.
والآن تبادر شرائح واسعة من المجتمع الأهلي للتصدي لمظاهر الفتنة والتضليل الراهنة، بعد أن آلمها تراجع دور الأحزاب الوطنيّة والمنظّمات والنقابات والاتحادات والتيّارات الوطنيّة والقوميّة والليبراليّة واليساريّة أمام طفو الإسلام السياسي، فالجهادي، فالتكفير والإرهاب. وخسران شرائح واسعة من الأجيال، واستقطاب التضليل والفتنة آمالاً واعدة من المجتمعات العربية صارت طاقاتها حجري رحى العدوان على الأوطان والأمّة.
هذا ليس مبالغةً، إنَّه الواقع الذي توضّحه حقائق عديدة منها: ردود فعل أهلنا الوطنيين الشرفاء مع نجاح المصالحات المحلية وهم يفتحون عيونهم وقلوبهم للجندي العربي السوري بعد طرد المسلحين الأشرار من بينهم. ومنها أيضاً استقبال هؤلاء الأهل بحفاوة بالغة لهذا الجندي وهو يطهّر البلدة من رجس الإرهاب. ومنها أيضاً التسارع في العودة إلى حضن الوطن والانتصار لمؤسسات الدولة الوطنية.
في ظلّ هذا المعترك يتحدث بعضنا عن العيش المشترك طرحاً للخروج من الأزمة. لكن العيش المشترك في الخطاب المعاصر يحيل إلى الحقل الديني، ويذكّر بإخفاقات العمل العربي المشترك، وفيه تشتمّ رائحة «الطائف» الذي أنتجته الحرب الأهليّة اللبنانيّة وأنتجها أيضاً. العيش المشترك يذكّر بمفهوم الأقليات، على حساب الوطن الجامع، إنّه مفهوم خلّبي كمفهوم التسامح والتعايش بعد سيل الدماء الحارق، وفيه يقول الرئيس الأسد أمام العلماء ورجال الدين في 23/4/2014: «جاؤوا بمصطلحات التعايش والتسامح.. مايعني أنَّنا أشياء متناثرة نعيش مع بعضنا قسراً».
ونحن كقوى وطنية كنّا ولانزال نؤكّد على الطرح الأهم الذي يحيل إلى الحقل السياسي: «الوحدة الوطنيّة»، هذا المفهوم الذي شكّل إحدى «الأقانيم المؤسّسة» لسوريّة الحديثة، إذ كان تجسيد هذه الوحدة سبّاقاً على النصِّ الدستوري من خلال وحدة الممارسة الوطنيّة كما تجسّدت في وقت مبكر من مراحل التنادي والإعداد والتخطيط لإطلاق الثورة السوريّة الكبرى التي عمّدت بالدم الحدود الجغرافية والسياسية للدولة الوطنية حتى اليوم، حيث هي نتاج هوية وطنية كفاحية مناضلة لا ترتضي الاكتفاء بشعارات التعايش والعيش المشترك والتسامح التي تليق فقط كشعارات مدنية بمشروع دولة ملفّقة وعابرة في الزمن، وليس دولة تضطلع برسالة حضارية هي في العمق معنى سورية ومبرر وجودها واستمرارها رديفاً بل أساساً للمشروع الوطني العربي.
«فالوحدة الوطنية التي نراها – كما أوضح الرئيس الأسد في آب 2002 أمام جماهير الحسكة – هي نقطة قوة سورية.. وهكذا كانت قوة سورية مع الرئيس حافظ الأسد.. وهي نقطة ضعف أعداء سورية».
د. عبد اللطيف عمران